أصر أخى الحبيب الثائر دائما على جولة سياحية فى مصر بعد الثورة، وكأنه أراد أن يحس أن مصر التى ألقيت فى اليم، وتوارت عن أبصارنا، وابيضت عيوننا من الحزن عليها عادت بكل تفاصيلها، كى نقر عينا ولا نحزن، وكأن الله الذى بشر أم موسى بعودته إليها، بشرنا وأعاد لنا مصر، قال تعالى: (فرجعناك إلى أمك كى تقر عينها ولا تحزن) وآهٍ من حزننا عليك يا مصر.
المهم أنّا عقدنا العزم وذهبنا نحتفل بعيد الأم، وأخذنا أمى إلى المتحف المصرى، لأنها (العائشة فى الحقيقة الأبدية) طوال الوقت، والمفتونة بأخناتون، وتابوت توت عنخ آمون، ولأنى دائمة الزيارة للمتحف المصرى، فقلبى يحمل دقائقه وتفاصيله، أعرف مداخله، ومخارجه، وكل قطعة أين وضعت، وكيف وضعت، لذلك حرصت أن أُعَرِّف أمى كل شىء لأن تلك هى زيارتها الأولى له بعد كل هذا العمر، وهى التى ربتنا على تراث أجدادنا الفراعنة وملأت مكتبتنا بأمهات الكتب التى تتحدث عن مصر الفرعونية، كنت أشاهد دهشتها فأزداد فرحا لها، وكأنى أرد لها جميل شغفنا بقصصها التى لا تنتهى عن أجدادنا.
ولكنى فوجئت وأنا بالمتحف بمئات القطع الضائعة، والتى تركت أماكنها خاوية على عروشها، كلما دخلنا قاعة أشرت إلى أخى وقلت كان هنا كذا وكذا، ثم أصرخ سرقت، فتردد روحى سرقت، ويتملكنى اليتم، كل قطعة هناك تسأل عن أختها، لتتزين بها وتصنع عالما أحيا بداخله، كنت دائما إذا ما أردت أن أشعر بعظمة روحى أذهب إلى هناك، وأتأمل، فتمتد أمامى البسط من ألوان زاهية لأمشى عليها وأغيب فى بخور الرؤية، فأشاهد نفسى على محفة الملك أرفع رأسى حتى أطاول الشمس، وأرتفع فوق الكون.
وأنا فى صراخ مشهد الفقد وجدت اثنين من رجال الجيش الشرفاء يؤكدان حجم النهب، ويقولان إنهم يرتديان اللبس المدنى من أجل المحافظة على البقية الباقية، والغريبة أنهما يستمتعان بما نشاهد ويسمعان شرحنا لأمى بمنتهى السعادة والحرص، ويشعران بما نشعر به من وخز الألم الذى يزداد كلما اكتشفنا فقدا جديدا.
ولكن ما شد انتباهى أن النهب تم بمنتهى السلاسة والخفة، لا أثر لبلطجية كما يدعون، كل شىء هادئ كموج البحر يبدو كذلك، وهو يموج بصخب الفساد فى داخله، وبألم الكذب والخداع المدمر، وكأنك سلبت شرفك (بصفعة على قفاك)، الفترينات ليس بها خدش واحد على زجاجها، مومياء كاملة ليست مكانها، مكانها فارغ كفراغ روحك حينما يموت أبوك، فتظل بلا سند ولا شرف إلا شرفه الذى أنشأك عليه، فما أشد ألم الفقد خصوصا إذا كان روحك الهائم.
ماذا ننتظر لنتحرك هل ننتظر أن نجد شرفنا يباع بالخارج فى المزادات العلنية، كنت أظن أن كنوز مصر الناطقة بعظمة أبنائها تشكل جزءا من كياننا ووجودنا، وأن أى عبث بها يجب أن يواجه بالحزم والحسم والسرعة، ولكن ما شاهدته فى المتحف المصرى من نهب وسلب، وما حملته لنا الأخبار المصرية والعالمية يؤكد أن المؤامرة من الداخل وبأياد كتب عليها (صنع فى مصر) بل (صنع فى المتحف المصرى) فلا ينبئك مثل خبير.
ماذا نسمى ثورتنا إذا (ثورة البطء)، هل تريدون قتلها ببرودة الإجراءات، فالتراخى والمط يكلفنا الكثير بازدياد الفساد الذى دفع ثمن التحرر منه شهداء سقطوا فى ساحة الحق برصاص الفساد، بطء الإجراءات جعل الغرب يغير رأيه فينا، ويرى أننا نستحق النهب الذى منينا به بسبب صمتنا على الظلم، بل ودفع الظالم إلى مزيد من ظلمنا.
ولقد ورد إلينا خبران من الغرب الأول من إنجلترا تؤكد فيه أنها لن ترد لنا أموال الأسرة الحاكمة المصرية السابقة، لأننا تأخرنا فى الإجراءات، وتأكد أنها لن تساعدنا فى الكشف عن الحسابات السرية.
والخبر الآخر من ألمانيا تخبرنا به أنها لن تعيد الأموال المنهوبة، لأن الخطاب الموجه إليها بتجميد الأرصدة به خطأ فى المعنى، أى استخفاف بمقدرات الشعب وأى استخفاف بثورة أشك الآن أنها نجحت، لأن من مبادئ الثورة، أخذ الحق من الظالم، فهل نظل نماطل ونتأخر حتى نموت كمدا، ويقتل صوتنا، وتتجلط أرواحنا؟
أعلم أن الشعب المصرى غاضب جدا، فلا ترتاحوا كثيرا وتعتبروا أنفسكم انتصرتم، إذا الشعب غضب فلتعلم الدنيا أنها فى خطر.
ورحم الله درويش حين قال:
غضب يدى
غضب فمى
ودماء أوردتى عصير من غضب
يا قارئى لا ترج منى الهمس
لا ترج الطرب
هذا عذابى
ضربة فى الرمل طائشة
وأخرى فى السحب
حسبى بأنى غاضب والنار أولها غضب
فارحموا غضبنا وأعيدوا لنا شرفنا المنهوب
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة