جلست الجدة التى لا تقوى على الحركة منذ سماعها نبأ استشهاد ولدها محمد الذى لم يتجاوز عمره 28 عاما تحتضن ابنه الصغير "عمر" ذا التسعة أشهر وتمسك بصورة والده التى لا تفارقها منذ استشهاده برصاص الشرطة فى جمعة الغضب، تنساب دموعها بينما تنظر إلى ابنته "سلمى" التى لم تتجاوز العامين تنام على صدر والدتها الشابة التى أصبحت أرملة فى رقبتها طفلان قبل أن يتعدى عمرها 22 عاما.
يعتصر الألم والحسرة قلب الأم والزوجة ويبحث الطفلان اللذان لم يستطع عقلاهما استيعاب ما حدث فى كل ركن من المنزل عن الأب الذى لن يعود، تمسك "سلمى" بصورته تقبلها وهى تسأل أمها بصوت طفولى "فين بابا؟" تجرى إلى شرفة المنزل حين تسمع صوت "توك توك" يمر فى الشارع قائلة "بابا جه" ولكن سرعان ما تعود الطفلة محبطة وعيناها تملأها الدموع لترتمى فى حضن أمها لتقول بصوت مكسور "مش بابا".
فمحمد ابن شبرا الذى كافح منذ الصغر، وكان يعمل أثناء الدراسة حتى يساعد أسرته إلى أن حصل على دبلوم التجارة لم يجد كالعادة عملا ثابتا فانتقل بين عدة أعمال بسيطة، كان يشعر بالقهر كغيره من الشباب، ويوم جمعة الغضب قال لزوجته التى حاولت منعه من النزول للمشاركة فى المظاهرات "إحنا فى ثورة ولازم كلنا نشارك علشان البلد تتغير لو ما شاركتش هاقول إيه لأولادى لما يكبروا ويسألونى عن الثورة هاقولهم كنت قاعد جنب أمكم؟".
وانطلق الأب الشاب بعد أن احتضن طفلاه وقبلهما للمرة الأخيرة وقال لزوجته "فيه فلوس تحت المخدة يمكن مارجعش تانى" وترك الأب بضعة جنيهات بسيطة ثم رحل للأبد تاركا وراءه حملا ثقيلا رغم أن دماءه هو وغيره من الشهداء رفعت عن مصر جبال القهر والظلم والفساد التى جثمت على صدورنا عقودا طويلة.
محمد كان قد اقترض من أحد البنوك قرضا بضمان معاش والدته الذى كان مصدر الدخل الثابت الوحيد للأسرة وقيمته 700 جنيه شهريا ليشترى توك توك يعمل عليه هو وشقيقه بعد أن ضاقت بهما سبل العيش، وقد تحطم التوك توك أثناء المظاهرات ولم تعد الأم تحصل على المعاش ولم يعد هناك أى مصدر للرزق لتنفق منه الأسرة والأطفال، واضطرت زوجة محمد التى لا تعمل لترك الشقة التى كانت تسكن فيها بعقد إيجار مؤقت بمبلغ 200 جنيه شهريا لعدم القدرة على دفع الإيجار بعد استشهاد زوجها، وحتى الآن لم يتم صرف أى مبالغ لأسر الشهداء بسبب بطء الإجراءات، حيث قيل إنه سيتم صرف 1500 جنيه كمعاش شهرى لأسرة كل شهيد، ومبلغ 50 ألف جنيه كتعويض، ولكن عرفنا فيما بعد أن أسرة كل شهيد عليها أن تختار إما المعاش أو التعويض.
وأسرة محمد ليست الحالة الوحيدة لأسر الشهداء التى تعانى ظروفا صعبة ولا تجد أى مصدر للرزق بعد فقد أبنائها، فهناك من كان العائل الوحيد لأم مريضة مبتورة الساقين تركها ابنها الذى كان يعمل قهوجى وليس معها سوى جنيهات قليلة لا تتعدى عشرة جنيهات، وهناك من ترك زوجة صغيرة وطفلة مريضة، ومن كان يعول أبا عاجزا، كلهم ترك أسرته بلا عائل ولا مصدر رزق، وتمتلئ الأحياء والمناطق الشعبية فى بولاق وشبرا ودار السلام وإمبابة بالعشرات بل والمئات من أسر هؤلاء الشهداء الذين لم تسلط عليهم الأضواء، ولم نر صورهم ضمن صور الشهداء التى تم طبعها فى بوسترات ونشرتها وسائل الإعلام، وكأنهم كتب عليهم أن يبقوا فى الظل دائما أحياء وأموات، وإن كنا على يقين من أن هؤلاء الشهداء ليسوا بحاجة إلى أن ترفع صورهم فى الدنيا لأنهم الآن فى مكانة لا تضاهيها مكانة، إلا أنه قد يكون فى الإشارة إليهم والاهتمام بهم عزاء لأبنائهم وزوجاتهم وأمهاتهم، حيث أشارت أم الشهيد محمد وزوجته أنهما تشعران بالأسى حينما لا تجدان صورة محمد بين صور الشهداء حتى يكبر أبناؤه وهم يشعرون بالفخر ويعرفون أن أباهم قدم روحه فداء لحرية مصر وشعبها.
وإن كان أمام المجلس العسكرى وحكومة الدكتور عصام شرف الكثير من المهام إلا أن أهم المهام التى يجب أن تكون من أولوياتنا جميعا الاهتمام بأسر الشهداء، وألا يقتصر هذا الاهتمام على مجرد الأغانى والكليبات التى تتحدث عن دور الشهداء، لذلك أقترح أن يتم إنشاء صندوق للشهداء تكون مهمته السعى لجمع كل أسماء الشهداء وأسرهم وخاصة البسطاء وكبار السن فى المناطق الفقيرة والعشوائية حتى لا نغفل أيا منهم ولا نتركهم لمحض الصدفة أو القدرة على التواصل مع وسائل الإعلام، أو المبادرات الفردية، وأن نعمل على تسهيل مهمة حصولهم على حقوقهم التى لا يمكن أن نعوضهم بها عما فقدوه، وأن نسعى نحن إليهم ولا نتركهم يتوهون بين المكاتب والإجراءات العقيمة دون أن يملك الكثيرون منهم ما يسد رمقه حتى يحصل على أبسط حقوقه، وأن يكون أهم مصدر من مصادر تمويل هذا الصندوق جزء من الأموال المنهوبة التى استولى عليها بعض رجال الأعمال ورموز النظام السابق، فضلا عن أموال التبرعات، ويتولى هذا الصندوق مسئولية تسهيل صرف أسر الشهداء للمعاشات ومبالغ التعويضات التى قررتها الدولة بشكل فورى وعاجل وأن يعمل هذا الصندوق بشكل دائم ليتولى رعاية شئون أسر الشهداء وأبنائهم فى كل المراحل بتقديم كافة التسهيلات والامتيازات التى تخفف ولو بجزء بسيط من آلامهم وأحزانهم.
وأخيرا أن يتم تخصيص جزء من أموال هذا الصندوق لتوفير فرصة حج أو عمرة لأمهات الشهداء وآبائهم هذا العام.
أعتقد أن الدكتور عصام شرف بما يمتلكه من قلب ومشاعر رقيقة لن يتوانى عن تخفيف آلام ومعاناة هذه الأسر، وإذا كانت دموعه قد سالت حين سمع دعاء المسلمين والأقباط له بالتوفيق فإنه لن يتمالك دموعه حين يستمع إلى دعوات أمهات الشهداء وأبنائهم ويرى دموعهم.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة