النار المتقدة كنار جهنم تتصاعد كما المارد الجبار، وقودها الحطب والقش رآها الناس بأم أعينهم يصنع لهيبها أشكالاً لمردة وجن وعفاريت فى وسطها وجوه الذين ماتوا أو الذين غرقوا فى بلاد الله، خلق الله فى إيطاليا واليونان والعبارات، ووجوه المفقودين من سنوات طويلة.
تتراقص النار كطقس وثنى عابرة من بيت لبيت ومن سطح لسطح يمسك آخر وهج من اللهب بأول حبة قش، كما عرس وكأنها يد العروسين تتقابلان، لا ينقصهما سوى المنديل والزغاريد والناس تخرج مذعورة من البيوت, تأتى عربات الدفاع المدنى والإسعاف ... لا أحد يعرف كما المولد الذى يأتى اليه العاشقون والسارقون والمحبون والمنافقون فى زفة الليلة الكبيرة، الكل يهرول ويجرى الاختلاف هنا بدل أصوات المنشدين وتهليل المداحين نجد اصوات الصريخ والعويل التى تتصاعد إلى آخر حدود السماء.
كل ده من غضب ربنا..
اللى حضر العفريت لازم يصرفه..
تحويشة العمر ضاعت، كل الذل اللى اتحملته فى الغربة عشان السقف المسلح والأربع حيطان راحت فى غمضة عين.
كل فرد من أفراد القرية يجرى فى اتجاه البعض تجاه الماء والبعض فى اتجاه الخلاء, الكوز والزير والحلة والخرطوم والشفشق والجردل هى أداوت المقاومة وكل واحد ومقدرته, عربات الدفاع المدنى إما معطلة من ضيق الطرق أو لا يصل إليها الماء، والفاعل طبعًا سيكون مجهول كالعادة.
النار تأكل فى تلذذ ما تشاء وقبل أن تهضم بيتًا تذهب لتاكل بيتًا آخر خرابًا آخر, هول المشهد لايمكن وصفه.
اللى بيجرى وهوه شايل تلفزيون أو مكواة أو أو ورق ملكية هوه ده وقت النار تفعل فى النار مين يقدر عليها، واللهب اللى طالع منها بيطلع لسانه للجميع وشيخ الجامع بيقول فى الميكرفون مدام الأوراح سليمة يبقى ربنا قدر ولطف وكل شيء يتعوض إلا روح الانسان، وبس مين قال إن الأرواح سليمة ومين اللى ما محصلش ليه حاجة، الخراب مش سايب ولا حتة فى البلد, يا نار كونى بردًا وسلامًا، هكذا تابع شيخ الجامع كلامه، اللهم أبعد عنا الجن والعفاريت والمردة والجن، لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا وأبعد عنا الخبث والخبائث.
نفوسة العمشة راح نقتلها ومحدش منا هيهوب ناحية بيتها يا رب ابعد عنا النجاسة والنفس الأمارة بالسوء والفاحشة، هكذا ردد بعض أهالى القرية.
بلدنا النار سارحة فيها والخوف مالى القلوب ... يكونش ده الرعب اللى مالى القلوب ولا ده حاجة تانية أقوى وأصعب منه.
سعيد الحرامى قال: والله لأتوب ومش هسرق بعد كده بس يا رب نجينا.
ما كان من الأول يا سعيد , سرحان اللى بيسلف الفلاحين بالفايظ ما حدش عارف مين اللى ولع بيته مع إنه بعيد خالص عن منطقة الحريق وعربيات الدفاع المدنى مش شغالة.
يارب مين غيرك ينجينا، العفاريت سكنت وعششت فى كل حتة فيكى يا بلد ولأن لكل شيء نهاية انتهى الحريق فجأة زى ما بدأ فجاة، والناس حمدت ربها وكل واحد راح يشوف حاله ولو إن الخوف لسه مالى قلوبهم.
فى اليوم التانى وتقريبًا فى نفس الميعاد اتجدد الحريق.
مش قولتلكم يا جماعة ده شغل عفاريت.
ياعم هى المشرحة ناقصة قتلة.
نقطنا بسكاتك.
واللى حصل فى اليوم ده هوه بالظبط اللى حصل فى اليوم الأول.
سلام قول من رب رحيم.
اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا.
وقررت الحكومة بعد كلام كتير ورغى كتير ووسايط أكتر أن تشكل فرقًا من البحث الجنائى لتبدأ التحقيق مع سكان القرية وكمان لمعرفة ملابسات الحادث وأسبابه
وكل ما واحد يقولهم الجن هوه السبب يبقضوا عليه.
يا خلق يا عالم حد يدلنا مين السبب فى الحريق.
ودارت الأيام والحكاية عمالة تكبر والنار بتاكل أى البيوت والزرع والشجر والبقر والحمير والجاموس والحيطان والأرض والقش والمفتَّح والذكى والناصح والحريص والفقير والغني، وبعد أيام كتير جه تقرير المعمل الجنائى وجت عربية من بتوع الحكومة وفيها ميكرفون بتنادى وتقول:
يا أهل البلد سبب الحريق تحلل روث المواشى وده بيعمل مادة عضوية بتشتعل
ذاتيًّا اتخلصوا يا بشر من روث البهايم بقى وانضفوا ومش هتحصل حرايق تاني.
روث مواشى بقى ده كلام يدخل العقل مرة يقولوا قش رز ومرة يقولوا روث مواشى يا مثبت العقل فى الدماغ يا رب روث مواشى أمال ليه زرايب البهايم مش بتولع أمال ليه الحتت اللى فى جوانب الطريق اللى مليانة روث مواشى مش بتولع، طب سيبك من ده وده ازاى الحريقة بتنتقل من سطح بيت لسطح بيت تاني؟!!
يا حكومة يا حكومة قولى كلام غير ده.
الشيخ الغريب
الشيخ الغريب سره باتع دخل البلد وعمل الرقية الشرعية وكل واحد دفع اللى فيه القسمة وأدى أسبوع عدَّى الحمد لله عليكى يا بلد لا حصل حريق ولا حاجة.
يعنى الحكومة طلعت كذابة ولا الظاهر البهايم بطلت تعمل روث.
اليوم العاشر
النار.. النار فى كل مكان من سطح لسطح بتمشى وكأنها واحد رايح يتفسح على الكورنيش براحته.
وشيخ الجامع ومعاه ناس كتير بتصلى وتبكى .. بتصلى وتبكي، يا ناس اتقوا ربكم
واللى عاملين يهربوا من البلد هيروحوا على فين طب ما رب هنا هوه رب هناك
احتموا بالجامع واعرفوا انه الملاذ الأخير، ده الدعاء مخ العبادة.
النار سارحة حتى القرآن اللى الشيخ الغريب قالهم شغلوه أربعة وعشرين ساعة فجأة بيقلب على أغانى ورقص ومسخرة.
الناس باتت فى الخلا بس شرط الحماية من النار حتى لو فى الخلا هو القلب السليم وكل واحد بقى يسبح ويكبر ويستغفر ربه قبل الموت.
والحكومة لسه ماشية بعربياتها اللى زادوا وبقوا تلت عربيات وتقول للناس على حكاية المادة العضوية.
وتحكيلهم عن روث المواشي!!
ومحدش عارف الحقيقة إيه بالظبط والحريق جاى منين ولا أصل النار دى إيه! وعربيات الدفاع المدنى لسه عطلانة وخراطيمهم ما بتوصلش ليها الناس شويه منهم هاجوا وشويه فضلوا فى الجامع بيبكوا ويصلوا، ويصلوا ويبكوا، وبيسالوا يا خلق هوه ايه أصل الحريق ومصدر اللهب فين!!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة