حوار على ضفاف النيل.. أعشق كثيرا الجلوس ليلا على ضفاف النيل، لأستمتع بمراقبة صفحته الهادئة المتمهلة كعادتها، وأبتهج برؤية الأنوار التى تتلألأ على صفحته فى بهاء، وتهدأ نفسى برؤية مشهد الصيادين الجالسين أمام معداتهم طوال الليل ينتظرون رزقا هو فى انتظارهم أسفل صفحة النيل، جلست أراقب صيادا عجوزا جالسا على مقربة منى ممسكا بصنارته وقد وضع بجانبه مذياعا صغيرا تأتى منه أغنية أحبها كثيرا، لتضفى على جو الليل والنيل سحرا عجيبا، سرحت مع صوت المذياع:
أنا إن قدر الإله مماتى لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدى
ما رمانى رام وراح سليماً من قديم عناية الله جندى
وبينما أنا فى هذا الجو البديع، رأيت شبح امرأة تقترب منى، لفت انتباهى طريقة مشيتها الواثقة كأنها ملكة، ورأسها المرفوع فى إباء جميل، اعترتنى رعدة حينما اقتربت أكثر، وتملكتنى دهشة عظيمة حينما تبين لى ملامحها، فقمت أستقبلها بحرارة وأدعوها للجلوس، وأنا مازلت لا أصدق أنها هى هى، ولا أدرى أحلم هذا الذى أراه أم حقيقة؟! لكنها ها هى ماثلة أمامى حقيقة لا شك فيها بعظمتها ووضاءتها وكبريائها، كانت هى هى.. مصر!! سألتها: مالك يا أمُ تبدين حزينة؟! انتزعت ابتسامة مكرهة وقالت لى: لا عليك بالحزن، الحزن سحابة صيف عابرة على وجوه الأوطان.
- ألست سعيدة بما صنع أبناؤك؟!
- فردت وقد التمعت عيناها بالسعادة: بل أنا فخورة بكل واحد منكم، رفعتم رأسى ومسحتم دمعى، أتحسبه هينا على نفسى أن أعيش عقودا لم تكتحل فيها عيناى بنصر، ولم تعرف شفتاى فيها بسمة، ولم تذق نفسى فيها فرحة، ولم أرفع فيها رأسى بعزة فى عالم الأمم؟! أتحسبه أمرا هينا أن تطاطئ رأسك خجلا وذلا، بينما ترى حولك أمما تنهض وأوطانا تعلو وحضارات تزهر، وأنت ترجع كل يوم للوراء ولا تملك إلا أن تراقب الأحداث فى صمت، وأن تنتظر الحلم فى صبر؟! لقد أعدتم يا ولدى البسمة لشفاهى والفرحة لقلبى والنور لعينى، وكنت على يقين أنكم ستأتون حتما لم أشك فى ذلك لحظة! تأخرتم كثيرا، لكنكم فى النهاية لم تخيبوا ظنى، فقلب الأم لا يكذب أبدا حينما يوقن بشىء.
- فعلام حزنك إذاً؟
- أشارت بيدها إلى وراء ظهرها وقالت لى: هل ترى أرض هذا الميدان؟! لقد ودعت فيه أكثر من مائة شهيد من أعز أبنائى وأغلاهم! مائة شهيد، كل واحد قدم روحه بسخاء فداء لى أنا، لو رأيت معى عيونهم وقت الشهادة؟! كانت شموسا وأقمارا لا أعينا! وكانت دماؤهم تفوح كأجمل عطر فى الحياة، وكانت بسماتهم تشرق بالنور وتغلب ألف نهار.
- أكنت معهم حينما ماتوا؟!
- كنت معهم واحدا واحدا، وكنت أغالب دموعى وألمى وأنا أزفهم واحدا تلو الآخر إلى الجنة، وأنا لا أملك إلا دموعى، مازال قلبى ينزف ويئن بصمت كلما تذكرتهم، وما غابوا عن بالى لحظة واحدة، وكنت معكم جميعا فى كل لحظة، كان كل جرح ينزل بأحدكم يدمينى أنا، ويكون لى كالطعنة التى توجه لكبدى، وكل شهيد يسقط يسقط معه قلبى ويتحطم، حتى تحطم ألف مرة، رأيتكم وأنتم تتلقون الضربات صامدين، وتقاسون الخيانات ثابتين، وحفظت وجوه الخائنين وجها وجها.
لم أخش عليكم وقتها فكنت على يقين أن المحن كالنار تصقل معدنكم وتنفى عنكم الخبث، والضربات التى لا تقصم ظهوركم تقويها، ورأيتكم وأنتم تخرجون من أتون المحنة أنقياء كسبائك الذهب، وفرحت معكم وغنيت واحتفلت ولبست ثياب العيد وطربت لأهازيج النصر، ورجعت الفرحة لقلبى وعادت الضحكة لحياتى!
ومضيت فى عالم الأمم أمشى عزيزة النفس مرفوعة الجبين، ورأيت التاريخ يتبسم لى لأول مرة منذ زمن بعيد، مشيرا بيده علامة النصر ثم يرجع إلى دفتره ليكمل تدوين تلك البطولات لحظة بلحظة.
- لكنى أشعر أن سعادتك تمتزج بشىء غامض لا أدرى كنهه لكنه يطل من عينيك!
- مشاعرى تضطرب كمركب لا تدرى بعد أين مرساها، جمعتكم المحنة، ووحدتكم المعاناة، وصهرتكم الثورة فى بوتقتها حتى نتج منكم ما أبهر العالم كله، لكنى أخشى عليكم أبنائى ما بعد النصر، أخشى على من جمعتهم المحنة أن تفرقهم المصالح! ومن قربتهم المعركة أن تبعدهم المغانم!
ما زال أمامكم يا ولدى طريق طويل طول النهر، وأمل بعيد بعد الشمس! وعدو ماكر مكر الليل يتربص بكم الدوائر!
أتعرف شعور الأم حينما ترى خطرا يحدق بأبنائها وهم ماضون نحوه غير منتبهين إليه؟! هذا هو الذى تراه فى عينى، أخشى عليكم يا ولدى، أنى لكم أن تفطنوا للسم إذا قدم لكم مخلوطا بالعسل، وكيف ينتبه النائم لحية تزحف ناحيته فى الظلام؟!
- أى حية تلك التى تزحف ناحيتنا وأى سم تقصدين أمى؟! سألتها فى قلق! لكننى لم أتلق جوابا، وأعدت السؤال مرتين، وإذا بيد تربت على كتفى: أفقت فإذا ببائع جائل يقف أمامى يعرض على بضاعته، شكرته وقمت مسرعا أتلفت حولى فلم أجد أحدا سوى صفحة النيل التى تسير صامتة هادئة كعادتها والأنوار التى تتلألأ بزهو على صفحته، والصياد العجوز الجالس فى صبر وصوت المذياع ما زال يشدو:
إننى حرة كسرت قيودى رغم أنف العدا وقطعت قيدى
قد وعدت العلا بكل أبى من رجالى فأنجزوا اليوم وعدى
نحن نجتاز موقفاً تتعثر الآراء فــيه، وعثرة الرأى تردى، مضيت وأنا أفكر، هل جرى هذا الحوار حقيقة؟! أم أنه كان مجرد حلم على ضفاف النيل؟! وفى كل الأحوال لم أعرف بعد أى حية تلك التى تؤرق مصر على أبنائها.
