طبيعى جدا أن تكون هناك حالة من الشك لدى قطاعات واسعة من المصريين فيما يحدث، هناك من يشك فى التعديلات الدستورية، وهناك من يشكك فى نوايا من ينادون بالتصويت بـ "نعم" لهذه التعديلات، ورأينا خلال الأيام الماضية من يرد بالشك فى نوايا من يطالبون برفض التعديلات، وأمام كل تصريح وكل قول وكل فعل شك جاهز لدى الآخرين.
رأينا كيف أصبحت فكرة الاستفتاء على التعديلات الدستورية طريقا للشكوك المتبادلة من قبل الرافضين الذين يرون أن الذين وافقوا إما إنهم انتهازيون أو طامعون فى السلطة. وكانت التعديلات مناسبة لإطلاق أكبر حملات تشكيك متبادلة، تواجهها حملات مضادة.وكيف أطلق مؤيدو التعديلات فتاوى وتوجيهات تعتبر من يقول لا كافرا، وفى المقابل اعتبر بعض الرافضين من يقول نعم خائنا. ونفس الأمر بين بعض من أعلنوا أنفسهم متحدثين باسم الثورة أو ائتلافاتها، وبدأوا يوزعون صكوك الثورة على من يريدون وينزعونها ممن يريدون.
وكل من يتابع قضية التعديلات يعرف أنه لا يوجد يقين لدى الأغلبية كما أنها لم تأخذ الفرصة للمناقشة، إلا فى الأيام الأخيرة، الأمر الذى جعل من الصعب على كثيرين أن يعلنوا موقفا يطمئنون إليه وشاعت فكرة أن يسأل كل شخص شخصا آخر "نعم ولا لا"، وهى حيرة طبيعية، مناسبة لحالة حرية لم تكن معتادة، وربما كان من الأفضل أن يؤجل المجلس العسكرى الاستفتاء لأيام يمكن فيها فتح نقاش يزيل الالتباسات فى بعض المواد، ويحدد ما إذا كانت التعديلات مجرد بيان دستورى، وليس إعادة إحياء لدستور سابق سقط مع مبارك.
هذه الشكوك تبدو طبيعية فى أعقاب ثورة زلزلت نظاما استمر طوال 30 عاما لم يترك خلالها فرصة للحوار أو الجدل، كما أنه عزل الشعب عن المشاركة فى السلطة أو تبادلها، كما أن نظام مبارك السياسى والإعلامى كان يلجأ دائما على التشكيك فى نوايا أى معارض أو أى منتقد ورافض للسياسات والتصريحات، لقد كان نظام مبارك وحزبه الوطنى نظاما قائما على التشكيك والتقليل من قيمة أى منتقد سياسى، ويبدو أن هذا الفيروس" الشك" انتقل من النظام إلى قطاعات واسعة جعلها تحمل قدرا من الشك يكفى لتغييب أى نوع من الاطمئنان.
وبعد سقوط نظام مبارك اكتشف كثيرون كيف كان هذا النظام يوظف أجهزة الأمن فى بث روح الشك والتلاعب بالأفكار خاصة خلال عشر سنوات كان التخطيط كله يسير نحو توريث الحكم من مبارك إلى ابنه جمال وفى مقابل التوريث هان كل شىء حتى أمن مصر ومصالحها.
وبالتالى ربما كانت حالة الشك التى عششت فى البلاد هى نتاج سنوات من العزل وتغييب الحوار، الأمر الذى جعل هذا المرض ينتقل إلى الحالة القائمة وهى أعراض طبيعية بعد ثلاثة عقود على الأقل من التسلط جعلت من الصعب على أحد أن يشعر بالاطمئنان تجاه غيره.
ومن هنا رأينا خلال الجدل حول التعديلات الدستورية كيف تحولت حالة الشك المنقولة من النظام السابق إلى كثير من الذين شاركوا فى ثورة 25 يناير، بدأت مبكرا فى أعقاب التنحى، فقد كانت الثورة فى ميدان التحرير وكل ميادين التحرير واحدة من أنبل حالات التوحد والعمل المشترك بين فئات الشعب، وسيبقى مشهد ميدان التحرير واحدا من أكثر المشاهد عبقرية فى تاريخ مصر. لكن المشهد ما أن انتهى إلى تنحى مبارك حتى عادت الجماعات والتيارات إلى أماكنها وطموحاتها ومطالبها. وهو أمر طبيعى لأن الثورة لم يقم بها حزب أو تيار ، يمكنه أن يحل مكان النظام، لكنها ثورة جمعت تيارات واتجاهات من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. وطبيعى أن تتوزع إلى تيارات وأحزاب وتنظيمات تبلور كل منها اتجاها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. ويبقى الشك صحيا طالما لم يصل إلى حد الصراع، أو الوصول إلى مصادمات من شأنها أن تقود لفوضى.
وهذا التوزع من شأنه أن يستغرق وقتا لبناء تنظيمات جديدة على أنقاض نظام استمر ثلاثين عاما وقبلها سنوات جرف الحياة السياسية.
ومن الطبيعى أن يكون هناك شك فى مواقف فلول الحزب الوطنى أو قيادات الصحافة القومية وعمداء الكليات ورؤساء الجامعات الذين كانوا يدينون بالولاء للنظام السابق وكانوا يحصلون على مواقعهم بتقارير الأمن، ومن الطبيعى أن يكون هناك خوف من تسلل هؤلاء إلى النظام الجديد. وهؤلاء أخطر ممن يظهرون عداءً للثورة من بين أنصار وقيادات النظام السابق.
والاختلاف هنا وراد بين اليسار واليمين، والشك محتمل، كوسيلة للفهم والمعرفة وأن يكون شكا منهجيا وليس على سبيل الإطلاق لأن استسهال التخوين والاتهامات والاستناد لشائعات وظنون هو ما يمكن أن يكون مرضا وخدمة للثورة المضادة، لأن الجدل حول التعديلات هو أول جدل وننتظر المزيد من الجدل حول كل شىء قادم لأن بناء نظام جديد على أنقاض نظام متسلط وقمعى يستلزم أفكارا وليس مجرد صراخ.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة