يوم جديد.. لا جديد.. جلس يتناول إفطاره وهو يجلس أمام الكومبيوتر يتصفح الأخبار على النت.. نظر لصورة مرفقة مع عنوان كبير.. تطلع إليها مليا.. أخذت نظرات عينيه تتحول.. فمن نظرة محايدة تحولت لنظرة حانقة.. ضاقت عيناه مع ضيق صدره وعبوس وجهه.
الخبر يقول صرح نقيب الأطباء أن لديه القدرة على إحالة من أساءوا إليه للتأديب وأنه ينوى عدم الترشح مرة أخرى وأنه حقق مكاسب كبيرة لأعضاء النقابة.. أغمض عينيه وهو يتذكر كلمات زوجته وكأنها مطارق تدق فوق رأسه.. "أهه ده اللى احنا واخدينه.. الدكتور رايح الدكتور جاى.. الناس كانت حسدانى إنى اتجوزتك وفى الآخر مش عارف تعيشنا زى الناس" فتح عينيه فوقعت على صورتى جده ووالده المعلقتين على الحائط.
وجد صورة النقيب التى مع الخبر تقفز لتحتل مكانا بجانبهما.. تذكر كلمات والده.. قال له إن جده وقف فى مؤتمر فى النقابة فى منتصف السبعينيات أمام نفس النقيب.. طالب بتعديل الكادرا لخاص بهم.. علا صوته وهو يلقى شعرا.. يا أهل الطب ويحكم آلاما.. نعانى من يد الكدر انهزاما.
توفى جده ولا شىء تحقق.. والده كانى طبيبا أيضا.. لطالما عبر عن غضبه من أن السنوات مرت السنة تلو الأخرى ولا شىء تحقق سوى الوعود الجوفاء.
كانت نقابتهم كباقى النقابات تلعب ويتلاعب بها فى ساحة السياسة.. أضعفوا النقابات كما أضعفوا الأحزاب.. أصبح على رأس كل نقابة أحد المرضى عنهم الذى يحترف مسك العصاة من المنتصف.. يمسك بشعرة معاوية يشد فيها ويرخى لتمر السنوات والحال كما هو.. أصبحت النقابات لا حول لها ولا قوة كأسود لا أسنان لها.. تستجدى ويرمى لمنسوبيها بفتات الموائد.
تعاقبت العهود ولا شىء تغير.. الحال هو الحال.. توفى والده منذ سنوات قليلة.. كم حاول أن يثنيه عن أن يكون طبيبا فقد كان يعانى ليوفر لهم حياة كريمة.. أصر.. كان لا يتصور نفسه إلا كما شاهد والده وجده.. بدأ العمل ووجد كل شىء يصيب بالإحباط فوزارة الصحة مصابة بالترهل من إمكانيات هزيلة ونظام اللانظام.
كم من المآسى يعايشها لبسطاء لا يجدون علاجا ولا دواء ولا رعاية.. كم من الليالى نام وهو يعض على أصابع الندم من أنه لم يسمع كلام والده بأن لا يكون طبيبا.. تربى ضميره أن الطب رسالة وأنها مهنة إنسانية.
ولكن الأطباء ليسوا ملائكة.. يحتاجون أكلا وشربا ولبسا ولهم تطلعات وطموحات لحياة كريمة بعد معاناة وتعب ومثابرة لسنوات طويلة.. إنهم بشر..!! يتذكر زميل لهم أجرى حال البؤس الشعر على شفتيه وهو يقول.. طبيب يأخذ أجر يومه بالدعاء.. فيملأ بالدعاء الجم جيبا.. ويشرب بالدعاء الجم ماء.
كم كان يشعر بالحسرة وهو يشاهد الدنيا تقوم وتقعد لأن فريق الكرة فقد بطولة.. كم تعبت نفسيته وهو يشاهد ابن الرئيس الطامع فى الرئاسة وهو يهتف بعروق نافرة وصوت مبحوح.. فريق مصر كويس زى ما قال الريس وشلة الأنس تهتف وراءه.. كم قامت الدنيا ولم تقعد عندما حصلت مصر على صفر المونديال.. لم يهتز لأحدهم رمشا والأصفار تتعايش معنا ليلا ونهارا فى جميع المجالات.
أخذ يتذكر أشياء كثيرة عايشها.. أخذت تمر فى مخيلته كقطار منطلق فقد سائقه السيطرة عليه.. تذكر ذهابه للشهر العقارى لعمل توكيل وما شهده من نظام عشوائى ومظهر كأننى نعيش فى عصور الظلام.. أخذ توكيلا به كتابات كثيرة بخط لا يقرأ واختاما مشوهة لا يرى منها شيئا من كتابة أو شعار.. تذكر ذهابه للمحكمة لقضية تعويض لسيارته التى دمرها لورى من الخلف فوجد نفسه محشورا وسط آلاف من البشر ووجد رقم قضيته 265.. لا نظام ولا مظهر متحضر.. مرت خمس سنوات ولم يحصل على شىء.. تذكر ذهابه للمرور.. ذهابه للسجل المدنى.. فوضى ومعاناة فى كل شىء.
يعمل ليلا ونهارا ليكفى أسرته الصغيرة حتى يوم الجمعة يعمل فيه.. أصبح عصبيا.. لا يحصل على قدر كاف من الراحة.. يصطدم مع زوجته كثيرا لا يستطيع ملاحقة طموحها وطلباتها.
جلس فى القاعة الكبيرة فى نقابة الأطباء.. كان النقيب يحاول جاهدا أن يرفع صوته وهو يقول أن النقابة مازالت تطالبى بالكادر الخاص وتحسين الأوضاع.. لم يحس بنفسه إلا وهو منطلقى يجرى نحو المنصة والشرر يتصاعد من عينيه وهو يصيح حرام عليك أبويا وجدى ماتوا وهما بيسمعوا منك الكلام ده.. أنا مش هندفن أنا كمان على أيديك.. تجمع الكثيرون وأمسكوا به يحاولون أن يمنعوه من الوصول إلى المنصة وهو يحاول الفكاك منهم وهو يصيح كفايه حرام.. كفاية حرام عليك.
فتح عينيه.. وجد الكثير من العيون تنظر إليه.. وجوه تمتلئ بالكدمات ورؤوس وعيون مغطاة بالضمادات..!! خير يا دكتور طه.. مالك يا راجل..!!؟ مسح على وجهه وتنهد تنهيدة طويلة.
إنهم زملاؤه المعتصمون فى ميدان التحرير.. تذكر ليلتهم.. كانت ليلة عصيبة هاجمهم الكثير من الرعاع والبلطجية أمطروهم بسيل من الحجارة وحاولوا الاقتراب منهم وهم يحملون السكاكين.. أقاموا المتاريس والحواجز ونجحوا فى صدهم.. أصيب الكثيرون.. تفاجئوا بالبعض يسقط مصابا وبعضهم استشهد برصاص لا يعلمون من أين يأتى.. كانت ليلة طويلة قضاها وهو يتعامل مع المئات ممن أصيبوا ويقوم بعلاج جروحهم.. عندما هدأت الأمور لم يحس بنفسه وغلبه النوم.
تصاعدت الهتافات فى اليوم التالى.. كان الهتافات ترج الميدان.. الشعب يريد إسقاط النظام.. كان يهتف معهم بأعلى صوته وفجأة وجد نفسه يهتف الشعب يريد إسقاط النقيب.. الشعب يريد إسقاط النقيب.. الشعب يريد إسقاط النقيب.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
د مصطفى
وايه العمل?
عدد الردود 0
بواسطة:
امتياز خالد حسونة
ومازال النقيب يؤمن بالتوريث!!!