كنت فى مكتبى نهارا عندما سمعت تجمهرا أمام المبنى الذى أعمل به حيث أعمل بالتصدير فى شركة صناعية كبرى، فنظرت من النافذة لأرى ما يقرب على خمسمائة عامل أمام الشركة يهتفون بهتافات مختلفة تتعلق بمرتباتهم التى تضعهم بدون مبالغة تحت خط الفقر وامتد الأمر لهتافات محتجة على الفارق الشديد فى المرتبات بينهم وبين زملائهم من الفئات الأخرى كالمهندسين والمديرين، كانت التظاهرة الصغيرة مستمرة منذ عادت الشركة للعمل قبل حوالى أسبوع مما يعنى أن الشركة متوقفة عن العمل منذ بدء الثورة وأنا –إذ أعمل فى التصدير- أستطيع أن أقول إن الشركة قد خسرت المليارات فى تلك الفترة سواء على صعيد مبيعاتها المحلية أو الدولية التى تدر العملة الأجنبية على بلدنا الحبيب وهى فى أشد الحاجة إلى الدعم الاقتصادى بجميع صوره فى المرحلة القادمة، ولم يتوقف التظاهر عند هذا الحد بل اتخذ بعدا آخر عندما حان موعد انتهاء العمل وحاول أحد زملائنا الخروج بسيارته من مقر الشركة ففوجئ بالعمال يصطفون أمام سيارته مانعينه من الخروج هو وكل من فى المبنى حتى يتم النظر فى مشاكلهم وحلها وكأن ذلك الزميل هو أحد المتسببين فى ما آلت إليه الأمور بالنسبة لهم، حاول العديدون من مختلف المستويات الوظيفية بالشركة التحدث معهم ولكن الحوار معهم كان لا يؤتى بأى ثمار إيجابية على الإطلاق وظل الأمر على حاله وتجمدت حياتنا حتى منتصف الليل عندما وجد ضابط الجيش المتواجد بالمنطقة وقتا لكى يأتى إلينا ويتحدث مع هؤلاء العمال وياللعجب فقد فض التجمع بعد خمس دقائق من تواجده بحنكة ومهارة يحسد عليها فى التعامل مع الحشود وكان ما آخره كما قال لى فى حديث جانبى إنه منذ الصباح كان منشغلا بتجمعات مشابهة فى العديد من المصانع الموجودة فى المنطقة الصناعية التى نعمل بها.
كنت سعيدا بتحقق الحلم الأكبر .. قيام الشعب يدا واحدة للمطالبة باستعادة كرامته المسلوبة، وأشد ما أسعدنى أن الثورة قد قامت على أكتاف شباب من الطبقة المتوسطة التى أنتمى إليها، شباب جامعى متعلم وواع لم يقبل أن يبدأ حياته كالدابة التى تدور فى ساقية ربطه إليها نظام تفنن فى دفن المواهب والقدرات، ثم انضم إلى هؤلاء مصريين من مختلف الطوائف والأعمار جمع بينهم صفة الوعى والرغبة الحقيقية فى التغيير ثم انضم آخرون .. وهنا تكمن المشكلة، فبعدما ثار الشعب فى ميدان التحرير ليحقق مطالبه وبعدما تحققت تلك المطالب وباتت الخطوة التالية والأكثر أهمية هى إعادة البناء، انتشرت مظاهرات فئوية لكل طائفة وجدت نفسها تحت ظلم من أى نوع سواء كان تفرقة فى المعاملة بين موظفين كنتاج النظام الماضى أو ضآلة المرتبات أو لربما خرجت طائفة من الطلبة تطالب بتغيير المناهج الدراسية التى أدت إلى تدهور المستوى العلمى للطلبة المصريين، وصارت المظاهرات هى الوسيلة الجديدة للإعلان عن المطالب وكلها مطالب مشروعة وضرورية ولكن طريقة المطالبة بها – وإن كانت نجحت فى التحرير- فإنها ليست الطريقة المثلى فى تلك الحالات فالهدف من الثورة كان تغيير النظام الذى كان يعوقنا عن مجرد المطالبة بحقوقنا المشروعة، ولكن بعد أن تمت الإطاحة بذلك النظام الذى كان هو السبب الوحيد والمباشر فيما آلت إليه الأمور فقد صارت مسألة المطالبة بحقوقنا بطريقة ديموقراطية تضمن لنا الآن تحقيق تلك المطالب إن كانت عادلة وفائدتها عامة، ولكن حكومتنا السابقة لم تعلمنا يوما أى شئ عن ممارسة الديموقراطية فى أى صورة من صورها سواء عند ممارسة السلطة أو المطالبة بالحقوق وكان نتاج ذلك أننا عندما حررنا أنفسنا اختلط علينا الأمر فى تفسير مبدأ الديمقراطية فظن البعض أن الثورة فى حد ذاتها هى الديموقراطية ونسى أنها فقط الوسيلة التى تؤدى إليها.
إن ما يحدث الآن لهو اشبه بالتنقيب عن الآثار، الأمر يتطلب فى البداية تكسير الصخور والحفر بقوة للوصول إلى مكان الأثر ولكن حينما نصل إليه ينبغى أن نتوقف عن الضرب بقوة وأن نتعامل معه بحكمة وهدوء حتى لا نفوت على أنفسنا المنفعة التى قد تعود علينا من إخراجه سليما نظيفا من مكانه وكذلك نحن قد احتجنا إلى القوة للوصول إلى الديمقراطية، ولكن بعد أن حصلنا على ما نريد من مطالب عامة لكل المصريين وجب علينا الآن إعمال العقل والحكمة وألا يفكر كل شخص فى مشاكله على حدة بل علينا أن نفكر فى شئ واحد فقط .. مصر.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة