وقف بين الآلاف المؤلفة من المنادين بسقوط مبارك، وفى ظل أمواج البشر التى أخذت تتدافع بعدما أقبل عليهم جنود الأمن المركزى بكثافة ضاق نفسه فجأة، حاول الاحتماء بإحدى البنايات العديدة فى التحرير، أدرك حينها أنه شم الغاز المسيل للدموع، ثم أخذ يسعل بشدة.
لم يجد نفسه إلا وقد ارتمى فى مدخل البناية العتيقة، وبدأ يهدأ السعال شيئاً ما بينما تعلو الهتافات بقوة، ما بين الدعوة بنصرة مصر إلى الدعوة بسقوط النظام، وفجأة دق هاتفه المحمول ربما لم يتخيل أنه لا زال معه، فقد ظن أنه ضاع منه أو سرق، لكن الله سلم، نظر سريعاً إلى شاشته فوجد سبع مرات اتصال، إنها زوجته زينب، رفع الهاتف إلى أذنه زينب أنا أنا بخير رددها أكثر من مرة واختلط صوتها بصوته فهى قلقة عليه للغاية، حيث اقترب موعد الولادة، الابن الذى كانا يترقبان ولادته، وقد جاء موعد ولادته فى ساعات عصيبة، ووقت مشحون مغلف بمستقبل ينتظره كل مصرى الخلاص والحرية.
رد مجيبا: نعم ماذا تقولين يا زينب؟
قالت: أنا حاسة إنى هاولد يا عبد اللطيف.
قال: لا لا مش دلوقتى يا زينب الله يخليكى.
وانقطع الاتصال، ظل بين قلقه وهتافه، وصوت البشر مثل موج البحر الهائج، فما كان إلا أن دعا ربه: يا رب يا رب زينب ماتولد دلوقتى!!
عاد يحاول الاتصال، لا فائدة، وقعت الشبكة وتعطلت، كظم قلقه فى نفسه حاول أن يتحاشاه حتى لا ينسى أنه جاء ليقف مع الشعب فى وسط الجموع الحاشدة المنادية، وفرت من عينه دمعة، لكن استعاد قوة صوته مردداً مع الجماهير مصر مصر يسقط يسقط حسنى مبارك، بينما زينب فى البيت ومن بعد اتصال انقطع عن عبد اللطيف كانت أمها وأخت عبد اللطيف يؤنسانها، ويشدان من أزرها، حمدا لله، فقد خف عنها الألم وعادت تقول: لسة الشبكة ما فيش اتصال عاوزة أطمن عبد اللطيف.
وجاء وقت الليل فى التحرير والجموع بين كر وفر وانتظار لما سوف يجيب عليه الرئيس مبارك، وتجمعت حشود تتحدث عن خسائر مصر خلال فترة حكمه، والمليارات التى ضاعت هبـاء بأيدى أصحاب القوة والسلطان، وكيف تذكر عبد اللطيف معاناته وشكواه من الغلاء وضعف الراتب، بينما هؤلاء منعمون بمال مصر وشعبها، ثم يعاوده القلق مرة أخرى على زينب وهل صحيح وضعت وماذا وضعت يا ترى؟ ولد بنت لا يعلم، وأخيرا تذكر أنهم رأوا الجنين على شاشة الطبيب، كان ذكراً فتبسم عبد اللطيف، وهو يرقد بكل جسمه تحت إحدى الخيام البلاستيكية، ويمنى نفسه بقبول الله لدعوته وهو ألا تلد زينب الآن.
ويمضى الوقت يوما بعد يوم بطيئا على الجموع الحاشدة والغفيرة، بل كل فرد فى مصر، وفى قلب ميدان التحرير، وهم فى انتظار الرد الذى ينتظرون: تنحى مبارك عن الحكم ثم حانت اللحظة والآذان صاغية إلى السماعات، وإلى شاشة كبيرة، وإذا بعمر سليمان يعلن تخلى الرئيس مبارك عن منصبه.
وانطلق الفرح المكظوم من الصدور وأخذ الجميع يقبلون بعضهم البعض، مهنئين فرحين مهللين بينما هاتف عبد اللطيف المحمول يدق آلان يدق بشدة، والأغرب أنه وسط هذا الفرح والأصوات العالية يسمعه، أجل يسمعه، وتناوله بسرعة ووجد على شاشة الهاتف اسم زينب، لكن الصوت ليس صوت زينب بل صوت أمها: مبروك يا عبد اللطيف جالك ولد.
لم يقوى على الإجابة، وظل يردد مصر مصر عاشت مصر، وأم زينب تنادى عبد اللطيف إنت سامعنى، وأجاب أخيراً وفرت الدموع من عينيه وقال: هاسميه مليار مليار مبروك على مصر يا حماتى، والتفت بعض من صحبته فى التحرير إليه، وكأنهم كانوا يعلمون قلقه على زوجته، وترقب موعد الولادة وسألوه: ماذا؟
قال: ولد ولد، وعادوا يهنئونه تهنئة خاصة، وسأله أحدهم: ماذا تسميه قال فى الحال، وكأنه مستعد للإجابة: مليـــار هو ده المليار الحقيقى مش مليار النصابين، وتحول هتافهم وقد حملوه على الأعناق: مصر مصر عاشت مصر.
