لما بُويع لإبراهيم بن المهدى العباسى ببغداد عام 202 هجرية، وكان مهتما بالغناء والموسيقى، يغنى ويصنع الألحان، قل عنده المال، فحبس العطاء عن الناس، فخرجوا عليه فيما يشبه الثورة، ووقفوا ببابه حتى خرج إليهم رسوله، فصرّح لهم بأن إبراهيم لا مال عنده، فما كان منهم إلا السخرية اللاذعة التى لا تخرج إلا فى أشد الأوقات مرارة، وتكون مرآة صادقة للحقيقة الموجعة، فقد قالوا له: أخرج لنا خليفتنا يغنى لهذا الجانب ثلاثة أصوات، ولهذا الجانب ثلاثة أصوات، فيكون هذا عطاءنا، والمقصود بالصوت (الأغنية). فهذه سخرية توضح شظف العيش الذى كانت العامة تعيش فيه، بينما الطبقة الحاكمة لاهية بنعيمها، ومعازفها.
ما حدث فى العصر العباسى، يحدث فى كل العصور، ولا أغالى إذا قلت: إنه يحدث مع أغلب الشعوب المقهورة، ولكن الشعب المصرى الرائع المعروف بخفة الظل، وجمال الروح، حوّل السخرية المتولدة من الوعى والمختزنة فى اللاوعى إلى "النكتة"، ومن معانى النكتة المعجمية أنها العلامة الخفية، والفكرة اللطيفة المؤثرة فى النفس؛ هكذا كانت النكتة السياسية عند الشعب المصرى هى العلامة الخفية لما يدور فى نفسه من أفكار وانفعالات؛ ترسم حال الشعب وتعبر عنه؛ فأفلاطون صاحب المدينة الفاضلة قال: إن الإنسان الكريم لا يعرف الجد إلا بالهزل من هنا تنبه الحكام لهذا المقياس فى قياس نبض الشارع، فالرئيس جمال عبد الناصر كان يخشى النكتة ويتعامل معها ليصلح ما يراه الشعب غير مرضٍ، وكان لديه وحدة فى المخابرات تعتنى برصد النكتة ليعرف كيف يفكر الشعب ومتى يتألم. والرئيس السادات كان لديه جهاز خاص بجمع النكت وكان يحرص على قراءتها فى بداية يومه ويسميها (نكات الصباح)، ولا أعلم هل كان هل كان لدى الرئيس حسنى مبارك جهاز أيضا لجمع النكت أم لا؟
فى تقديرى المتواضع أنه لم يفعل واعتبر ما يقوله الناس نوعا من التنفيس، وهو مهم جدا حتى لا ينفجر الشعب ويقتل رئيسه كما حدث مع السادات. وكانت هذه هى سياسة النظام السابق فى التعامل مع جرائد المعارضة وبرامجها التليفزيونية، فلو أنه كان يتابع لعلم حجم الفساد فى الدولة، ومدى غضب الشعب، ولكنه اعتبرها نوعاً من التسلية وتعامل مع الأمر باستخفاف؛ ولا أنسى خطابه عقب الانتخابات الأخيرة لمجلس الشعب، حينما سأله أحد الحاضرين عن البرلمان الموازى الذى تطرحه المعارضة كبديل عن المهزلة الانتخابية التى فجرت آتون الغضب المتصاعد لدى الشعب، حينها هز كتفيه وقال "خليهم يتسلوا" لتنفجر القاعة عن بكرة أبيها بالضحك.
وتعالوا معى لنتتبع نبض الجماهير عبر عدة نكات انتهت بثورة عارمة بعدما يئس الشعب من حكومة مستبدة لا تعى مطالبهم المشروعة.
فى بداية تولى الرئيس السابق محمد حسنى مبارك نائب رئيس الجمهورية أطلق الشارع عليه لقب ".....الضاحكة"، وعللوا ذلك بأنه دائم الابتسام على كل كلمة يلقيها الرئيس السادات، ولم يؤملوا الخير منه ولا من مواقفه التى كانت غير ظاهرة، وهى لمحة تدل على قمة ذكاء الشعب المصرى الذى تحققت نبوءته بعد ذلك، وظل هذا اللقب ملازما له مدة إلى أن بدأ الشعب يشعر بالنهب المنظم لمقدراته وأحلامه، بظهور أبناء السيد الرئيس فى الصورة وفرضهم على كل مشروع ينشأ على أرض مصر لتظهر نكتة صاحب القهوة "صاحب قهوة معلق صور تلات رؤساء بتوع مصر فسأله سايح مين دول فقله دا عبد الناصر إلى أمم القناة وبنى السد العالى، ودا السادات الى انتصر فى 73 وسكت، فسأله السايح امال التالت دا مين فقله ده دا يبقى أبو علاء شريكى فى القهوة".
النكتة الثانية "بيقولك حسنى راح فى غيبوبة الموت فنده نظيف، وقله وصيتك جمال يا نظيف، فقله متخفش ياريس جمال الرئيس القادم بعد سعادتك يا فندم، فراح فى الغيبوبة، وبعد شوية فاق فقله وصيتك الشعب يا نظيف فقله ماتخفش يا ريس شعبك ياكل الظلت، فراح فى غيبوبة وبعد شوية فاق فقله متنساش تخلى توكيل الظلت لعلاء يا نظيف".
النكتة الثالثة "الريس نده لنظيف وقاله إيه رأيك فىّ، أنا أحسن ولا عبد الناصر فقله انت ياريس، عبد الناصر كان بيخاف من الروس وانت لا، فقله طب انا ولا السادات فقله انت ياريس، السادات بيخاف من الأمريكان انت لا، فقله طب انا ولا عمر بن الخطاب فقله انت ياريس، عمر كان بيخاف من ربنا انت لا".
المتتبع لتلك النكات وغيرها المتفاوتة فى الزمن لمدة ثلاثين عاما يؤمن بوعى الشعب المصرى، ونقده للواقع المرير، الذى يقتنص البسمة من حرقة المفارقة، ويختزل الواقع فى لغة تصل ببلاغتها إلى مرمى الهدف، نضحك ولكن تبقى المرارة فى أفواهنا ليترك السؤال حائراً معلقاً بعد عسل المفارقة، وماذا بعد هل نسكت؟ نتأمل النكات لتظهر الصورة كاملة الشعب بدا غاضباً من نائبه غير راضٍ عنه، ولولا الظرف لخلعه، ثم رافضا للفساد المستشرى من أسرة الرئيس، ثم فاقدا الثقة فى أى أمل للإصلاح أو التغيير، بل وناعتا رئيسه بأنه لا يعرف الله، إن النكتة هى النحلة التى جمعت عسلها من رحيق الأفواه التى نقلتها وأخرجتها شرابا مختلفا ألوانه من سمعها رواها بطريقته المختلفة، وأضاف عليها أو غير من مفرداتها على حسب الظرف واللحظة، ليظل منتجها هو الوعى الجمعى المرتبط بالذاكرة، والذى لديه القدرة على تجاوز الحاضر عقليا، وتمثل صورة المستقبل كما قال برجسون فى تعريفه للوعى، فإذا نكّت الشعب فاحذروه، فينتشه يقول "إن من يبلغ ذروة القوة يضحك من مآسى الحياة".