"حلم العودة" قصة قصيرة لمحمد فهيم

الأربعاء، 09 فبراير 2011 10:46 ص
"حلم العودة" قصة قصيرة لمحمد فهيم صورة أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

محمد فهيم

رجعت فى الساعات الأخيرة من الليل كعادتها، ولكن يبدو عليها علامات الحزن والأسى، دخلت حجرتها وضعت متعلقاتها فوق التسريحة، أخرجت زفيراً غبر المرآة، استدارت خلفها، تبحث عن رضيعها الذى تركته لساعات طويلة، قضتها فى البحث عن متعة زائفة، ورغبة فى حياة اعتقدت أنها الأفضل، مع شاب فرنسى أنيق الشكل، لامع الوجه، مرسوم كلوحة زيتية من القرن السادس عشر، لم تجد رضيعها كما تركته فى سريره، بحثت عنه تحت لحافه الفيبر دون جدوى، فتشت فى كل مكان لم تعثر عليه، زاد همها واشتد ضيقها، نفخت نفخة طارت لها خصلة شعرها الناعم المتدلى على عينيها، أعادتها إلى مكانها بإصبعها السبابة، لتستعيد تألقها وتسترد شيئا من هدوئها، وقالت لنفسها لقد أخذه زوجى، ذلك الأفاق المخادع اللعين، خائن العشرة ناكر الجميل، الذى يحيا بين أحضان غانية رومانية، صفراء اللون زرقاء العين سوداء القلب، خطفته وسيطرت على جوارحه وجوانحه، وما عادت ترى منه هى ورضيعها رعاية أو صرفا، وهى التى منحته الحب والود، وتركت الأهل والوطن وهاجرت معه إلى بلاد لاتعرف فيها أحد، بحثا عن السعادة والمال، ولكن حظها العاثر أوقعه أمام تلك الغانية، التى سرقت حلمها معه..
لحظات ودق جرس الباب، زادت ضربات قلبها جرت مسرعة تسبقها لهفتها وشوقها، من يكون بالباب؟ إنه جرس التحذير الذى يسبقه كل ليلة نعم إنه هو زوجها، جثة ضخمة، يد ممتلئة، ذراع قوية، وجه غليظ القسمات، يقطعه شارب منكوش، يمسك بين أصبعيه سيجارة لا تفارقه، حتى أصبحت من علاماته المميزة، يضعها فى فمة أكثر مما يضع أى شىء آخر، تخيلت نفسها ملقاة بين أحضانه، فقد طال شوقها لضمة عضلاته القوية، وفترت آمالها فى أن تلفها أذرعه الفتية، وبسرعة تذكرت ما كان منه، فأرسلت عينيها شررًا كاد يحرقه، فقد ألقى بها فى براثن الرذيلة، وتركها وسط غابة من الثعالب، هربت منها لتجد قطيعًا من الذئاب، تركها لهم دون حماية أو رعاية، وذهب بلا رجعة هو الآخر، إلى جحيمه يطفئ نار شهوته، طمعا فى المال الذى رآه بين يدى تلك الغانية..
تناست ذكرياتها المؤلمة للحظات، ونظرت داخل عينيه نظرة لوم وعتاب، تخبره بأنها لن تغفرله أبدا، فهم المعنى فى الحال، وقال لنفسه لائما: لقد خسرت حبيبة عمرى، التى حلمت منذ صغرى أن يلتقى سواد عينينا، ولكنها هى التى طمعت وطمعت، وزادت مطالبها، وقتل حبها للأشياء حبى لها، فأرادت أن تمتلك كل ما تراه، حتى قصمت ظهرى، وجعلتنى أهجر أسرتى التى كانت تحتاج منى إلى رد الجميل، بعدما علمنى أبى، وضحت من أجلى أمى، وحرمت نفسها من الطعام حتى آكله، ومن الجديد حتى ألبسه، فسلبتنى منهم، وحرمتهم منى، وتعالت علىّ بنسبها وجمالها، ومنت علىّ بزواجها منى، والآن هى فتاة ليل ساقطة سافلة، باعت نفسها للشيطان، وسلمت شرفها لمن يشترى، وعرضها لمن يدفع أكثر، ولولا تلك الشقة التى تجمعنا لطلقتها وزال عنى عارها، ولولا ذلك الرضيع المسكين لقتلتها.

قرأت كلماته فى عينيه، فقطعت أوصالها، وقالت أنت كاذب، أردت أن تهرب منى كما تركت أهلك، عرايا جوعى يقهرهم الفقر، ويقتلهم المرض، ولم تكن لى حيلة إلا جسدى أتكسب منه، بعدما تركتنى فريسة لأصدقائك الشياطين بلا ثمن، وأصبحت أمتهن ما علمتنى إياه وقبضت الثمن، وقررت أن أستمتع بكل شىء، فقد صارت الحياة عندى لحظة ممتعة يجب ألا أضيعها، وتأكدت أن الجنة ليست فقط فى الآخرة، وساوت النار عندى آلام الجوع والحرمان، وتركتك لغانيتك تتمتع بجنتك التى اخترتها لنفسك، فلا تلومنى فنحن فى الوحل والذنب شركاء، ولكنى أراك اليوم يملاؤك الأسى، ويعلو وجهك الهم، لعلك زهدت فى غانيتك كما زهدت أنا أيضا فى دنياى..

انتبها من غفوتهما وانتهت محاسبة كل منهما للآخر، تذكرا رضيعهما المسكين، فخرست العيون، وانطلق اللسان، فكان السؤال منهما معا أين الرضيع؟، طار عقل الأم وذادت لهفتها، واسترجعت صورة رضيعها وهو يلهو يبن يديها، يناغيها وتناغيه، تقبله فيبتسم ابتسامته المشرقة كنور الصبح، كادت دموعها تنهمر، لكنها حبست حتى أنفاسها، حتى لايراها زوجها فى موقف ضعف، وهى تلك القوية المعتزة بنفسها، فتعجب من حالها، وتذكر هو الآخر أبوته التى عاشها بين أحضان أبيه، وضن هو بها على ولده، فلعن نفسه والغانية والمال، وبسرعة اخترقت عيناه أركان الشقة وجدرانها، رأى شباك المطبخ مفتوحاً، جرى نحوه نظر منه، وجد جارته العجوز أمامه تهز رأسها، علم أن رضيعه عندها فهم أن به مكروب، عاد مسرعا نحو الباب، سبقته الأم وعلا صوتها مرددة ابنى ابنى، اقتحما شقة جارتهم، تسمرا أمامها، ارتفع صوت زفيرهما ولم يستطيعا أن يسمعا غيره، أقبلت عليهم السيدة تحمل بطانية صغيرة تبدو منها ملابس الصغير، وضعتها بين يديه، إنه هو استبشرالأب وتبسمت الأم حتى أغرق نور ثغرهما اللفافة، كشفا عن وجهه إنه مغمض العينين لعله نائم، تحسست أصابع يده إنها باردة، صرخت بأنه لا ينبض لقد فارق الحياة، لقد تطهر من ذنوب أبيه، وخطايا أمه، وترك لهم دنياهم بعدما كره رائحتهم النجسة، ورفض أن تحمله أيديهم الملوثة، أو تحتضنه أجسادهم الدنسة، أو يربى من مال جمعوه ولم يبالوا من أين، بكى وبكت معه وبكت العجوز، حتى أغرق الدمع وجوههم جميعا، ولم يقطع بكاءهما شىء، فالصغير لن يبكى بعد الآن فقد أعياه البحث عن حضن أمه وضمه أبيه حتى توقف إلى الأبد، والعجوز قهرها الإعياء وارتعدت من هول الموقف، قبلاه قبلة الوداع، وفهما معنى الرسالة، وقررا أن يغفر كل منهم للآخر، وشرعا فى تنفيذ حلم العودة إلى وطنهما، ليبدآ معًا رحلة التطهر من جديد.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة