"الأيدى الباردة" قصة قصيرة لمحمد فهيم

الإثنين، 07 فبراير 2011 06:46 م
"الأيدى الباردة" قصة قصيرة لمحمد فهيم

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

محمد فهيم

سقط كفها من بين أصابعه، قام لتحية المودعين من الأهل والأصدقاء، انشغل عنها وسط الأحضان والقبلات، بحث عنها لم يجدها، تاهت منه بين الأقدام، جحظت عيناه بحثا عنها بكل الأركان، أعياه تكرار المحاولة دون جدوى، فقد الأمل فى رؤيتها قبل ركوب السيارة، لم تبق إلا لحظات يريد أن تكون هى آخر ما تراه عيناه يأخذها معه فى رحلته، تبقى معه تؤنس وحشة الغربة وتهون عليه مرارتها، وضع قدمه داخل السيارة التفت خلفه هناك شىء يجذبه من سترته، إنها هى ابنته الصغيرة، أطبق على يديها الصغيرتين الناعمتين الباردتين، وضعهما على خديه يسلب منهما برودة الجو ويشعرها بدفء حبه وحنانه ويطفئ هو لهيب شوقه إليها الذى اشتعل وهو لم يكد يغادر المكان بعد، رفعها إلى صدره ضمها برفق أطبق عليها ذراعيه، قبلته الصغيرة فى خده، قبلها فى فمها، ترقرقت عيناه بالدموع، حتى أبكى كل المودعين، علا صوت السائق هيا بينا لقد تأخرنا، لم يستطع أن يبرح حضنها، أطبق عليها أكثر وأكثر، زاد تعلقها برقبته، حاولت الأم نزعها عنوة دون جدوى، أغراها الجد بشراء الحلوى وأبدًا لم تستجب، وكأنها تعلم ما ينتظرها بفراق أبيها، الذى تربت فوق كتفيه، ولعبت على ظهره، ولف ضفائرها ونسق هندامها، وعلمت ما ينتظره هو الآخر من لوعة الشوق إليها، وحنين الغربة بعيدا عنها، تذكر وهى بين يديه خمس سنوات هى عمرها رعاها منذ ليلة الميلاد، رآها تكبر أمام عينيه، اشترى لها كل ما وقعت عليه عيناه، حتى يرى السعادة أبدية بين جفنيها، مرسومة على شفتيها لاتبرحهما أبداً، ونطقت على يديه أجمل الكلمات فرح لها، وضحك كثيرا بسببها، وحكى نوادرها لمن يعرف ومن لا يعرف..
حانت اللحظة انُتزعت الصغيرة من حضن أبيها ركب السيارة على مضض، علا صوت نحيبها رأى دموعها تغطى قسمات وجهها، انطلقت السيارة بسرعة، غاب منظر البيت والمودعين، ساد الوجوم بداخل السيارة قطعه السائق بصوت عود ثقابه وهو يشعل سيجارته، استساغ رائحة الكبريت واستثارته رائحة السيجارة، ركبوا الطريق الرئيسى فى اتجاه القاهرة، زاد الوجوم وعلا التوتر الوجوه فقد كست الشبورة الطريق، تحدث السائق حول مصاعب السفر فى الشبورة، لم يلتفت إليه فهو فى عالم آخر، ثورته الداخلية تزداد مع اقترابه من المجهول، فهولا يعلم عن مستقبله القريب إلا غموضه، وارتسمت حكايات من سبقوه إلى عالم الغربة أمامه، وتذكر عندما تركه أبوه وسافر، وقتها كان فى عمر ابنته، وكان ينام فى حضن أبيه ولم ينم ليلة واحدة بعيدا عنه، وبعدها ظل لسنوات يضع جلبابه معلقا أمام عينيه، ليشعر بوجوده وكأنه واقف فى الحجرة لم يغادرها، وكلما أضناه الشوق جرى إلى الجلباب يحتضنه ويقبله ويحكى له آلامه، ويتمسح به كما تفعل القطة الصغيرة مع أمها، ويبكى على فراق أبيه، وينظر إلى أقرانه وهم بين أيدى آبائهم، فزاد قلقه على ابنته وعاد يقول لنفسه إنها بين أبى وأمى وزوجتى.

وتذكر حكايات أبيه عن رحلة سفره إلى السعودية، وكيف طرده كفيله بعدما استولى منه على أوراقه وماله وعامله معاملة العبيد، وما حدث له عندما عاود الكرة وسافر إلى ليبيا فى بداية الثمانينيات عن طريق مالطة، فقد كانت العلاقات مقطوعة بين الدولتين بعد كامب ديفيد، وكيف تاه فى شوارع الجزيرة، وجاع حتى تسول هو وأقرانه الطعام، حتى حل ميعاد رحلته إلى بنغازى، وكيف ذاق الأمرين فى بلاد الغربة، وحمل على أكتافه الطوب والرمل، يبنى القصور لساكنيها، وهو لا يملك لنفسه وعياله وزوجته إلا حجرة فى بيت أبيه، يذل بها مع كل صباح، وترك زوجته وأولاده لحما أحمر بدون مليم واحد، حتى جمع ثمن البيت وعاد فبناه وعلم أولاده..
مرت الدقائق بطيئة كئيبة صعبة مؤلمة سادها الخوف والرجاء، تخللها القلق والأمل، تدارس خلالها تجارب النجاح والفشل، فقد نجح أبوه فى المرة الثانية لسفره وقادت أمه السفينة باقتدار حتى عاد، ولكن هناك غيره الكثير لم ينجح ورسب فى الامتحان، أو سقطت منه أسرته أو ضاعا معًا، والحكايات كثيرة عن الأب الذى غاب وتزوج فى الغربة، والزوجة التى انحرفت بعدما تركها زوجها، والأبناء الذين فشلوا فى دراستهم، وضاعوا لكثرة المال وغياب الراعى، أو البنت التى تاهت فى وحل الرذيلة، دون أن تراعى حرمة أب أو أخ ، أو تقدر قيمة شرف الأنثى، ومعنى العفة والطهارة عند المجتمع، وقتلت فرحة أبيها عند قدوم شريك حياتها يطلبها منه، فيتيه فخرا بالحسب والنسب، وحولت زغرودة أمها يوم العرس إلى نواح، وحرمت نفسها من فرحتها بالثوب الأبيض يوم الزفاف..

ثم عاد وتذكر فلاناً وابن فلان الذى بنى العمارة، واشترى السيارة، واختار أجمل البنات لتكون شريكة نجاحه، ويحيا حياة الحكام وأصحاب المال، لا يحرم نفسه وعياله وأهله مما لذ وطاب، وتذكر صغيرته وقال لنفسه أضحى من أجلها، ولتحرم منى وأحرم منها بعض الوقت، وبعدها ننسى طعم الحرمان إلى الأبد..

زادت برودة الجو، ارتعدت أطرافه وتخبطت أسنانه، فرك أصابعه لعله يشعر بالدفء، أفاق على صوت ارتطام السيارة بسور أسمنتى جانب الطريق، وصياح السائق بعدما تحطمت سيارته بسبب الشبورة، نزل فاقدًا وعيه واتزانه، وجد أمتعته متناثرة حول السيارة، التقط صورة ابنته من على الرصيف، حاول أن يفتح الباب لينقذ السائق، لم ينجح إلا بعد عناء، وجده ينزف حمله بصعوبة، وضعه على الأرض، أخرج قطعة من القماش ربطها على قدمه، وضع يديه فوق الجرح، والسائق يصرخ من الألم، سأل نفسه ما العمل؟ الطائرة بعد ساعة والسائق راح فى غيبوبة، لم يتردد وحمله بكل قوته سار به جانب الطريق، مرت سيارة حاول إيقافها ولم تستجب، أكمل طريقه بصعوبة، وصل إلى صيدلية تعمل حتى الصباح، دفع الباب ألقى به فوق كرسى، أقبل الصيدلى كشف الجرح، قال إنه غائر وخلفه كسر مضاعف، واتصل بالإسعاف التى جاءت متأخرة بعد بزوغ الفجر، وأقلعت الطائرة، وانتهى حلم السفر، وزال هم الغربة معه، وعاد المسافر إلى حضن ابنته بعد طلوع الشمس، وجدها نائمة أمسك يديها وضعهما بين يديه يستعير شيئًا من دفئهما بعد ليلته الباردة، استيقظت سعيدة لفت ذراعيها القصيرتين حول عنقه وراحت تقبله، واعتقدت أنها كانت تحلم.








مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة