كل من يناصر متظاهرى التحرير متهم بالخيانة والعمالة لجهات أجنبية.. وكل من يناصر "مبارك" متهم بخيانة الثورة وبأنه "بلطجى".. هذه هى الصورة المؤسفة الآن.. والحقيقة التى لا يختلف عليها اثنان، وباعتراف قيادات مسئولة بالدولة، هى أن الاحتجاجات كانت تعبيراً عن معاناة كثير من المصريين، بمن فيهم مؤيدو "مبارك".. وأن مصر قبل 25 يناير تختلف جذرياً عن مصر بعد 25 يناير.. وأن المكتسبات التى تحققت على الأرض ما كان لها أن تتحقق لولا "ثورة الفيل"..
وعددت التحليلات السياسية هذه المكتسبات فى: إسقاط حكومة رجال الأعمال، والنظر فى الطعون الخاصة بانتخابات مجلس الشعب الأخيرة، وعدم التمديد لرئيس الجمهورية، ونسف فكرة التوريث من أساسها، وتعديل الدستور، والتحفظ على وزير الداخلية، المسئول السياسى الأول عما حدث من عنف وبلطجة تجاه المتظاهرين السلميين العزل، وكذا التحفظ على أحمد عز، أمين تنظيم الحزب الحاكم، والذى وصف من قبل رجال الحزب أنفسهم بأنه المتسبب الأول فى الخراب الذى حل بمصر طيلة السنوات الماضية، والتحفظ على وزير السياحة زهير جرانة، فضلاً عن وزير الإسكان أحمد المغربى، بالإضافة إلى تجميد أرصدتهم، والتمهيد لمحاكمتهم علنياً أمام الرأى العام، هم وآخرون من مسئولين كبار فى الدولة لم يُكشف عنهم بعد.
المؤكد أن هذه المكتسبات فشلت جميع الأحزاب والجماعات المعارضة فى تحقيقها طيلة ثلاثين عاماً، وفشل فى تحقيقها أيضاً أناس شرفاء كانوا ضمن كتيبة الحزب الحاكم نفسه وحاولوا الإصلاح من الداخل.. الآن وفى ظل هذا الحوار الذى يحاول أن يجريه نائب رئيس الجمهورية، رجل المخابرات القوى اللواء عمر سليمان، ومعه رئيس الوزراء الفريق أحمد شفيق، مع كافة ألوان الطيف السياسى فى مصر، هل يمكن أن نعود للفكرة العقيمة التى تقول بملاحقة كل من ناصر ثورة 25 يناير ؟ هل نعود مرة أخرى إلى محاكم التفتيش ؟ وما هى الضمانات لعدم تنفيذ ذلك فى ظل حملة الاعتقالات الحادثة الآن لنشطاء ساهموا فى الثورة ؟
إن جداراً ضخماً من عدم الثقة، الحادث الآن، يجعل المتظاهرين لا يصدقون الوعود الحكومية بملاحقة رجال الأمن ومسئولى الحزب الحاكم وأرباب السوابق والبلطجية المتسببين فى خراب البلاد وفى قمع وإرهاب المتظاهرين.
الأمر الواضح الآن يقول إن اتهام بعض الفضائيات العربية بأنها تعبث باستقرار البلاد ربما، بل المؤكد، أنه يتساوى تماماً مع اتهام التليفزيون المصرى بضلوعه فى تزييف الحقائق الجارية على أرض الواقع، وبشحن المواطنين للوقوف ضد أبنائهم الذين طالبوا بحريتهم أولاً وبعيشة كريمة، ومثلما وعدت الحكومة بمحاسبة رجال الحزب الحاكم المتسببين فى الفتنة عليها أن تحاسب الإعلام المصرى بالقدر نفسه، خصوصاً أنه أحدث شرخاً عميقاً فى نفوس المصريين، بمحاولاته المستميتة، وغير المسئولة، لإحداث تعادل على الأرض بحشد مظاهرات التأييد لـ"مبارك"، من دون أن يدرس بدقة عاقبة الأمور.
الراصد لما جرى طيلة الأيام الماضية يمكنه أن يلحظ ببساطة كيف تراوحت موازين القوى فى الشارع، فبعد أن قوبلت المظاهرات باستهجان حظيت بتعاطف بسبب الغباء الأمنى منذ تصديه بعنف للمتظاهرين، وحتى هروبه وتركه الساحة للصوص ولقطاع الطرق فبات الجميع غير آمن فى بيته، وتشكلت لجان شعبية شارك فيه المعارضون لـ"مبارك" والمؤيدون له.. وبعد أن كسب الرئيس تعاطفاً، بخطاب قال فيه إنه يكتفى بما تبقى فى فترته الرئاسية، خسر الرئيس كل شىء بسبب غباء آخر سياسى هذه المرة من قبل رؤوس الحزب الحاكم، حين حشدوا مظاهرات ظاهرها التأييد وباطنها الفتك بالمتظاهرين، فأوقعوا فيهم شهداء وجرحى.. وهكذا قتل المصريون المصريين !!
اللافت للنظر الآن، وأنا شاهد عيان من داخل ميدان التحرير، أن الشباب الثائر لا يعرف أحداً من رموز المعارضة السياسية، كما لا يعرف أحداً من رموز الفكر، ولا يستمع لأى أحد بالأساس.. والشىء المؤكد الآن أن المكتسبات التى حققتها الاحتجاجات مهددة بالضياع فى غمضة عين بسبب الوجود المكثف لجماعة الإخوان المسلمين على أرض الميدان.. أما الأكثر تأكيداً، وهو ما يجب أن يدركه الجميع، أن الاحتقان طال الجميع داخل وخارج الميدان.
أفهم أن أتظاهر بـ"حرية" لتحسين وضعى المعيشى، وهو أمر مشروع فى كل المواثيق والأعراف الدولية، فإن تحسنت أوضاعى المعيشية أكف عن التظاهر.. أفهم أن أتظاهر من أجل تحسين العلاقة بين رجل الشرطة وبين المواطن، وهو أمر بديهى فى كل المجتمعات المتقدمة، فإن تمت الاستجابة لمطالبى أكف عن التظاهر.. أفهم أن أتظاهر لإقالة حكومة رجال الأعمال، اعتراضاً على "زواج رأس المال بالسلطة"، فإن أقيلت أكف عن التظاهر، أفهم أن أتظاهر لإبطال عضوية نواب نجحوا بالتزوير، فإن تم تنفيذ الأحكام المؤيدة لذلك، ولا يصبح "المجلس سيد قراره"، أكف عن التظاهر.. الآن المؤكد أن التظاهر لن يتوقف لأن المطلب الرئيسى تحول باختصار، وبسبب قتل المتظاهرين الشرفاء، إلى رحيل "مبارك" أولاً.. هذه هى اللعبة الآن.. ومن ثم إما أن يرحل "مبارك" وإما أن يظل الوضع قائماً على الرغم من حصار ميدان التحرير وقطع إمدادات الغذاء والأدوية عن المتظاهرين حتى يتنازلوا عن مطلبهم، وهو أمر أشك كثيراً أن يقدموا عليه.
اللعبة الآن تقول باختصار إن "مبارك" يراهن على كسب مزيد من التعاطف الشعبى وتجييش الجماهير ضد المتظاهرين، لكنه لا يدرك أن كل دقيقة تمر، وهو مستمسك بكرسيه، يكسب فيها المتظاهرون تعاطفاً أكبر على المستوى الشعبى أيضاً، فضلاً عن المستوى العالمى، خصوصاً بعد أن انتشرت ميليشيات الرعب، وبتنا نسمح لأطفالنا، للأسف الشديد، أن يحملوا الأسلحة البيضاء للدفاع عن أنفسهم كأنهم بلطجية !!