تمر الشعوب وأنظمتها على مر السنين بالكثير من العمليات الانتقالية قد تقصر حينا وقد تطول حينا آخر، ولم يعرف التاريخ أبدا أيا من الانتفاضات أو الثورات الشعبية التى نجحت فى تغيير الأنظمة إلا عندما تبدأ من قاع المجتمع حتى أعلاه، وصولا إلى رأس الفساد، وما حدث فى مصر هو النموذج الأمثل لما يطلق عليه ثورة الشعب فقد سكت شعب مصر بكل طوائفه، لا فرق بين غنى وفقير مسلم ومسيحى؛ على فساد استمر لأكثر من ثلاثين عاما، وانفجر غضبهم عارما من قاع المجتمع، وخرج المارد الشاب من قمقمه غاضبا هادرا ينادى بما سكت عنه أباؤه قهرا وتكميما لأفواههم، وكأنه يأخذ حقه وحقهم معا، ينادى بتنحية النظام الذى أفسد البلاد وباع أرضها وسرق مالها وأقوات شعبها وسرطن زرعها ولوث مائها وتحالف مع عدوها وباع لهم غازها وثرواتها، وقتل آمال شبابها وشعبها فى الحلم بمستقبل أفضل، لقد فاحت روائح الفساد فى كل أرجاء مصر حتى لم يعد هناك بقعة فيها إلا وقد نالها ما نالها من فساد فى الذمم التى خربت والرشى التى استشرت فى كل الدوائر الرسمية وغير الرسمية حتى أقسام الشرطة؛ التى ليست فى خدمة الشعب بل فى خدمة الحزب؛ تفننت فى ترويع الشعب بكل أطيافه وقفت إلى جانب قلة تحكم ضد كثرة غلبت على أمرها دهورا حتى ظن الكثيرين أن لن تقوم لها قائمة ، لكن شباب مصر الشرفاء أذهلونا وأدهشونا وأفرحونا، فقد قاموا قومة رجل واحد و نطقوا بما نخفيه فى صدورنا جميعا خوفا وهلعا من شرطة الحزب وأمنه المركزي، يجب علينا جميعا أن نعى أن القهر والظلم والتعذيب والفساد هو من أطلق المارد من قمقمه،ولو حدثت مثل هذه الثورة الشريفة فى أى مكان من أوروبا، لرأينا اختلافا هائلا فى معالجة مثل هذا الموقف فهم لن يقمعوا حركة هؤلاء الشباب المسالم بالمياه أو الرصاص المطاطى أو الضرب بأيدى زبانية أحزابهم ولن نجدهم قد أطلقوا السجناء من أصحاب السوابق كى يروعوا الآمنين فى بيوتهم كأنهم يرسلون لهم تهديدا مبطنا هل حالكم اليوم أفضل ؟ هل تريدون الأمن مع السكوت أم تريدون أن تنطقوا بما لا نريد فتعيشوا فى خوف ورعب ؟ أغلب الظن أن معاملة مثل هؤلاء الشباب المثقف الواعى الذى نظم مسيرة سلمية كى يطالب بحقه فى التعبير عن مطالبه دون إراقة نقطة دم واحدة ستكون فى قمة التحضر فى بلاد الغرب ، لماذا ؟ لأن الشباب هم وقود المستقبل فى غد أفضل وهم يحلمون أن يحققوا لبلادهم الكثير وقادة الغرب يدركون ذلك، يجب علينا أن نحذو حذوهم فى الإقبال على الاهتمام بشبابنا ورعايتهم وتحقيق آمالهم، وتدريبهم على حمل مسئولية المشاركة فى بناء مستقبل بلدهم وإلا فلن نجد لهؤلاء الشباب أى ولاء لبلدهم التى نشأوا تحت سمائها وتلقوا تعليمهم فيها، وسيظل حلم السفر والهجرة حلما يراود عقل كل شباب مصر مسلميه ومسيحيه فقيره وغنيه ، يجب على حكماء مصر وقادتها العقلاء أن يحرصوا على عدم تكميم أفواه فلذات قلوبنا، بل إحتضانهم والأخذ بيدهم حتى يكون ولاءهم الأوحد لبلدهم، أتمنى أن نرى بعض قادتنا ممن لم يعلو الشيب رأسهم،لإنهم سيرون نتائج أعمالهم، أتمنى أن أرى فى كل بلادنا العربية رئيسا سابقا حى يرزق وهو فخور بما أنجز، أتمنى أن أرى قادتنا يحرصون على تغذية عقول أطفالنا بمبادئ حب الوطن من خلال حرية الرأى والتعبير ، أتمنى أن أرى مدارسنا تفخر بتعليم لغتنا العربية الجميلة كى تعود كما كانت لغة يحرص الجميع على تعلمها، كى يحبها أبناؤنا أكثر من اللغات التى ترطن بها ألسنتهم إعجابا، أتمنى كغيرى أن أقول كلمة حق دون الخوف من الشرطة والتعذيب فى أقسامها، أتمنى أن تختفى كلمة مسجون سياسى من قاموس مفرادتنا، أتمنى أن ننهى جميعا معاملاتنا فى الدوائر الرسمية دون أن ندفع الرشى، أتمنى أن أستطيع مقابلة رئيس الجمهورية كى أشكو له بعض هموم بلده ومشاكل مجتمعه دون الخوف من الاتهام بمحاولة قلب نظام الحكم، أو محاولة اغتيال رئيس الدولة، أتمنى أن أستيقظ فأجد مصر وقد أصبحت فى مصاف الأمم المتقدمة فعلا لا قولا ، أتمنى أن يحترم إعلامنا الرسمى عقولنا فيخاطبنا كعقلاء لا كمتخلفين عقليا، أتمنى أن يحظى علماؤنا ومفكرينا بالتقدير والاحترام،أسوة بالمغنين والممثلين ولاعبى الكرة، كثيرة هى الأمانى ندعو الله أن يحققها لنا كى ننهض من عثرتنا ويخرج المبدعين بكل طوائفهم من شرانقهم المقفلة عليهم كى تعود مصر منارة الشرق كما كانت، أتمنى أن تصل كلماتى إلى كل من يعنيه الأمر لأنه يعنينا جميعا، والله من وراء القصد .
صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة