تعرف شعور تلك السيدة المسنة المنزوية فى إحدى دور المسنين تنتظر لحظة النهاية فى ضعفٍ؛ فلم تعد لتجد من نفسها القدرة ولا المنطق لتقارن بين ولدين عاقيّن، أحدهما ألقى بها إلى الشارع دون أن يبالى بدموعها ولا توسلاتها ولو للحظة، والآخر الذى رأى ضعفها ودموعها ولم يرحمها بنظرة الغضب التى أطلت من عينيه صارخاً فى وجهها، أنها هى السبب فى كل ما حدث له.
ربما يقرب لك الصورة تلك المقارنة بين من تجبر فى الأرض فعاث فيها فساداً وظن أنه وحده يستطيع أن يميتها ويحيها، حتى أنه عندما سحب قواته ببشاعةٍ تفوق خيانة "خنفس" نفسه أيام الثورة العرابية، قد تصور أنها ستسقط للأبد ولن تقوم لها قائمة، وأن عموم الشعب البرئ سيزحفون إلى مقره متوسلين أن يعيد قواته الأمنية من جديد، دون أن يدرى المسكين أن "السكان الأصليين لمصر" لم يبالوا يوماً بسلطات سيادته وجبروته ولا قسوته، وأنهم قادرون رغم كل ما يصنعه بهم على الحياة من جديدٍ به أو بدونه؛ فوقفوا بشجاعةٍ ضد كل الأخطار كعادتهم الدائمة، فلم يجد المسكين أمامه إلا الفرار كأى جبانٍ آخر يعرف أن ورقة التوت الأخيرة قد سقطت وأن عليه الهروب من وطنٍ لم ينتمِ يوماً إليه إلا بالاسم فقط قبل أن تناله فؤوس المساكين الذى سخر منهم يوماً.
"ارحموا عزيزَ قومٍ ذٌل"؟ هكذا يهتف البعض، متناسين أنه "ما ذُل حتى أذل"، وأن السيد حبيب العادلى الذى كان يُفترض به أن يكون أول من ينزل إلى الشوارع متفقداً حمايتها بدلاً من تفقد مخزونه من الرصاص المطاطى والقنابل المسيلة للدموع قد خان الأمانة وسحب قواته الأمنية وفى ظنه أن يرحل قبل غرق السفينة، وأن السيد أحمد نظيف الذى تعالى أن يلقى بياناً عاجلاً إلى المتظاهرين قبل يوم الأحد ريثما يفرغ، مما هو أهم - من وجهة نظره التكنولوجية - من مصر وشعبها لابد أن يحاكما نظير ما اقترفته أيديهما الآثمة وقت الخطر تجاه هذا الوطن وشعبه.
أما الآخر ذاك الرابض فى ميدان التحرير، فلا أستطيع أن أنكر أن معه بعض الحق فى كل ما يفعل، ولكن من الحكمة أحياناً الانسحاب بالنصر قبل انهيار ساحة المعركة نفسها، ومن الغباء أن تغرق السفينة بغرض قتل القبطان فقط، وعليه أن يعلم أن صراخه وجداله لم ولن يجدى بشىء، وأنه من الأفضل أن يعود من جديدٍ لينقذ ما يمكن إنقاذه من السفينة التى تشرف على الغرق، ولكنه هو الآخر يصر بأنانية غريبة أن يبقى صارخاً وشاكياً إلى الأبد تاركاً الباقيين يواجهون خطر الغرق مع السفينة.
الغريب أن الزمن لا يتوقف عند هذا الذى باعها، ولا عند هذا الذى لم يشترِها، وإنما دار دورته ببراعةٍ ليستقر عند قدمى تلك الأم التى خرجت أقوى تنظر بسخريةٍ إلى الماضى، وتلتمس خطواتها القادمة فى ثباتٍ نحو المستقبل.
أحمد العطار يكتب: عن الذى باعها.. والذى لم يشترِها!
السبت، 05 فبراير 2011 02:44 م
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة