كل الطرق كانت تؤدى إلى ثورة 25 يناير 2011 ، وحدهم فقط الذين جلسوا على كراسى الحكم كانوا يتعاملون مع كل نداءات التحذير باستعلاء شديد، تعاملوا وحدهم على أنهم الذين يمتلكون الحكمة والصواب، والكل على خطأ ، لم يتوقف واحد منهم أمام رأى عاقل يذكره الغيورون على الوطن ، بل كانوا يطلقون رجالهم فى كل وسائل الإعلام ليس من أجل مواجهة الحجة بالحجة، وإنما من أجل التجريح، والكل يستحضر الآن مجمل الاقتراحات التى قيلت من أجل إنقاذ البلد ، ومن أجل مسك فرصة للإصلاح والتغيير، لكنه العناد وحده كان هو الرد على مجمل هذه الاقتراحات. هل نتذكر الآن اقتراح الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل الذى كان فرصة ذهبية للإنقاذ، والذى نادى فيه إلى تشكيل مجلس يضم حكماء البلد من أجل وضع دستور جديد، وتشكيل حكومة تدير البلد لمدة عامين تكون مهمتها الإنقاذ، وجمع هيكل فى هذه الاقتراح شخصيات وطنية محترمة، وبدلا من مناقشته، انطلق زبانية الحزب الوطنى من سياسيين وصحافيين، يكيلون للرجل الشتائم، ويهاجمونه بوصفه من الزمن القديم.
ومن قلب النظام ذاته كانت هناك اقتراحات ضاعت أيضا، مثل التى أطلقها الإعلامى عماد الدين أديب الذى أطلق ما أسماه بـ«الخروج الآمن للرئيس مبارك» ، وبالرغم من ذلك لم يلتفت أحد إلى ذلك، وهناك اقتراحات أخرى تقدمت بها الجمعية الوطنية للتغيير، وأحزاب المعارضة الرئيسية مثل حزب الوفد، لكن النظام مارس لعبته الدائمة بالتجريح والتشويه، وتمترس خلف ممارساته التى سدت كل أفق للتغيير، وبلغت ذروة افترائه بالتعديلات الدستورية التى أعادت مصر إلى الوراء ، فبعد أن تنسم الشعب قدرًا من الديمقراطية فى انتخابات عام 2000، زادت مساحتها فى انتخابات 2005، عاد الوضع إلى الوراء ، بعد أن تم تعديل الدستور لإلغاء الإشراف القضائى على الانتخابات تحت حجج سخيفة من قبيل أنه لا توجد دولة فى العالم يتم فيها الإشراف القضائى الكامل على الانتخابات، وأن قيام القضاة بهذه المهمة يؤدى إلى ضياع هيبتهم وأغفل هؤلاء أن أجهزة الأمن بدلا من أن تقوم بحماية القضاة أثناء العملية الانتخابية، كانوا يطلقون البلطجية من أجل الاعتداء عليهم، وكان الأمن هو الذى يدير المسألة كلها، ليس من زاوية حماية الناخب من أجل وضع صوته بنزاهة، وإنما من أجل تنفيذ الخطة المرسومة بإسقاط من يريد الحزب إسقاطه.
تأكد الكل من اللحظة التى تم فيها إلغاء الإشراف الكامل للقضاة على الانتخابات، أن مساحة الديمقراطية على قلتها انتهت، وتم دفنها بفضل الحزب الوطنى وحكومته، وتأكد الكل من ذلك فى انتخابات مجلس الشورى الماضية التى كانت فضيحة بكل المقاييس، وكانت بروفة حقيقية لانتخابات مجلس الشعب.
أدار الحزب الوطنى والحكومة وأجهزة الأمن انتخابات مجلس الشعب الأخيرة بمبدأ أنه لا يريد أحدا معه، ومارس كل أنواع القذارة فى هذه الانتخابات، وبحماية الشرطة والبلطجية، أسقط كل الشرفاء من المعارضة والمستقلين. أسقط الحزب وأجهزة الأمن أسماء بقيمة حمدين صباحى، وسعد عبود، وجمال زهران، ومحمد مصطفى شردى، وسعد الكتاتنى، وصبحى صالح، ومحمد البلتاجى، والبدرى فرغلى، وضياء رشوان، وحمدى السيد، ومصطفى السعيد، وطاهر أبو زيد، ومحمد العمدة، ومصطفى بكرى، وعشرات غيرهم.
وكان صلف الحزب واضحا من كلام أحمد عز الذى سخر من قرار حمدين صباحى بالانسحاب من الانتخابات، وتحدث عن أن الحزب كان يجهز منافس حمدين منذ شهر فى عملية سرية، وبدا حديث عز كأن الحزب كان يجهز عملية أشبه بـ«رأفت الهجان» لمواجهة حمدين صاحب الشعبية الجارفة فى دائرته.
ولم يقتصر تزوير الانتخابات على تقفيل الصناديق، وقيام الأمن بهذه المهمة، بالإضافة إلى إجباره الناس على عدم مغادرة منازلهم للذهاب إلى صناديق الانتخابات، وإنما تم إهدار كل الأحكام القضائية التى حصل عليها المرشحون لوقف الانتخابات، وتم ذلك بصلف كبير رغم كل التحذيرات التى أطلقها قضاة وسياسيون بأن عدم احترام أحكام القضاة معناه الذهاب إلى المجهول، فإذا كان القضاء هو الجهة التى يلجأ إليها الناس من أجل أخذ حقوقهم، فأين يذهب الذين ينصفهم القضاء طالما أن أجهزة الأمن والحكومة تدهس بأحذيتها كل هذه الأحكام؟
ولم يكتف الحزب وأجهزة الأمن بذلك بل خرج رجال الحزب وقياداته يتحدثون وبكل صلف عن أن الانتخابات كانت قمة فى الديمقراطية والنزاهة ، وخرج أحمد عز المسؤول الأول عن هذه الفضيحة فى مقالات نشرتها له جريدة الأهرام يتحدث فيها عن أن نجاح مرشحى الحزب باكتساح تم بعد إنجازات للحكومة والحزب ، وذهب الناخبون إلى صناديق الانتخابات لرد الدين لهذا النجاح، وذهب أساطين الحزب الوطنى وعلى رأسهم الدكتور فتحى سرور فى إطلاق الكلام الفارغ حول نزاهة الانتخابات وشرعية المجلس، وبدا منه- وهو أستاذ للقانون- أنه يضرب عرض الحائط بكل الأحكام القضائية التى حصل عليها المرشحون، وعلى نفس الشاكلة قال الدكتور مفيد شهاب كلاما أسوأ يبرر به التزوير، ففى حوار له على قناة الحياة تحدث قائلا:«هناك تجاوزات وقعت فى انتخابات سابقة، لكن علينا أن نتساءل بصراحة: هل هذه التجاوزات كانت مسؤولية الإدارة أم المرشح أم الناخب، وأعتقد يقينا أنه لا توجد توجيهات حكومية، ولكن أن يحدث تجاوز هنا أو هناك فهذا أمر وارد ويجب تلاشيه»، وبدا من هذا الرأى السيئ من مفيد شهاب أنه يبرئ الحكومة من كل أنواع التزوير، وأن الناخب هو الذى يفعل ذلك، فهل نرى أسوأ من هذا الرأى؟، وعلى نفس النهج تحدث الدكتور على الدين هلال الذى خلع رداء أستاذ العلوم السياسية، ولبس رداء الحزب الوطنى، ليطلق كل أنواع التبريرات للتزوير، وانطلق الدكتور مصطفى الفقى هو الآخر يبرر التزوير بقوله إن ماحدث فى الانتخابات من تجاوزات، هو من الممارسات التى تحدث فى دول المنطقة، وضرب مثلا بدول مثل العراق وأفغانستان. كان تبرير الفقى واحدا من التبريرات السيئة التى أطلقتها ماكينة الحزب الوطنى والحكومة التى تمثله ورجاله الذين انطلقوا فى وسائل الإعلام يقولون كلاما يستغفلون به الشعب المصرى الذى رأى التزوير أمام عينيه، وبدلا من أن يجد من يستمع إلى شكواه، وجد حزبا يتعامل معه باحتقار بالغ .
والمثير أن الناجحين من الحزب بفضل التزوير، لم يستطع أحد منهم أن ينزل الشارع لمواجهة ثورة 25 يناير، أين الوزراء الذين دفع بهم أحمد عز فى الانتخابات وحصلوا على عشرات الآلاف من أصوات الناخبين، أين مفيد شهاب، وأين عبد السلام المحجوب فى الإسكندرية، وأين نصر علام فى سوهاج، وأين على المصيلحى فى الشرقية، وأين سيد مشعل فى حلوان، وأين أحمد عز نفسه فى محافظة المنوفية، وأين فتحى سرور فى السيدة زينب، وأين المرشحون الذين أنزلهم أحمد عز بالباراشوت فى المحافظات مثل الدكتور أحمد سامح فريد فى بنها، أين كل هؤلاء وغيرهم إذا كانوا قد نجحوا بالفعل بأصوات الناخبين؟
لم تقف جريمة الانتخابات الأخيرة عند إسقاط العشرات من المرشحين الشرفاء فى كل الدوائر، حتى كان الحصاد أكثر من 95% للحزب الوطنى فى المجلس، فيما يعنى أغلبية لحزب لا يوجد مثله فى أى دولة فى العالم، وحين بدأت شرارة ثورة الغضب لم نجد واحدا من هؤلاء فى الشارع يدافع عن حزبه، على الرغم من أن النتائج الرسمية لكل مرشح من هؤلاء أشارت إلى فوزه بعشرات الآلاف من الأصوات، والسبب أنهم يعلمون جميعا أنهم جاءوا برضا أحمد عز وأجهزة الأمن، وليس برضا الناس، ولا يمكن فصل هذا الأمر بمشهد الحرائق الذى انطلق فى معظم مقرات الحزب الوطنى فى المحافظات، وانطلقت شرارة الحرائق فيها دون أن نجد نائبا واحدا يدافع عنها.
كانت الانتخابات هى المشهد الإضافى لتراكمات طويلة من القهر والاستبداد والإصرار على الانفراد بالحكم، وحين لجأوا إلى تشكيل البرلمان الموازى كتعبير عن رفضهم للبرلمان الشرعى، سخر منهم الرئيس مبارك قائلا: «خليهم يتسلوا»، قال ذلك بدلا من الانتباه إلى أن لجوء النواب وقيادات المعارضة إلى هذا التشكيل، هو رسالة إضافية لحجم الغضب الشعبى، وفهم الكل من هذه الرسالة الساخرة من رئيس الدولة أنه لا أمل فى التغيير، فالرئيس الذى كان يتباهى بأنه رئيس لكل المصريين أكد من هذه السخرية أنه رئيس للحزب الوطنى فقط، وأنه يوافق على كل الممارسات التى حدثت فى الانتخابات، وأدت-كما قال الباحث الدكتور عمرو الشوبكى- إلى أن ينضم النواب المعارضون إلى الشارع، بعد أن كانوا يمارسون المعارضة تحت غطاء الشرعية، فأصبحوا قوة إضافية للثورة التى انطلقت يوم 25 يناير.
اندلعت الحرائق فى مقرات الحزب الوطنى فى محافظات مصر، لتكشف أننا أمام حزب ليست له قواعد، وحزب يعتمد على أجهزة الدولة، ونواب نجحوا بالتزوير فتركوا الحزب فى أيدى مشعلى الحرائق.
تزوير انتخابات البرلمان .. الرصاصة الأولى فى معركة التغيير
الجمعة، 04 فبراير 2011 09:38 م
محمد حسنين هيكل
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة