فى الوقت الذى كنت أحاول فيه جاهدًا التغلب على حيائى، والتفكير فى طريقة تحفظ لى كبريائى وأنا أطلب من زميلى فى الجريدة خمسين جنيها لأستطيع الرجوع إلى منزلى وشراء بعض المتطلبات الصغيرة لأسرتى، دخل أحد الزملاء ليخبرنا بتوزيع وجبات جمبرى بالمجان على المتظاهرين فى ميدان التحرير.
بعد خروجى من الجريدة تذكرت الآية الكريمة: "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ"، وبينما كنت أفكر فى كيفية التصرف بالـ20 جنيهًا التى أعطانى إياها زميلى، معتذرًا بأن "الظروف واحدة"، وكلانا لم يقبض راتبه بسبب الأحداث الجارية، كانت جحافل الشباب والأسر المتجهة إلى ميدان التحرير، تحمل فى يدها عبوات "الكانز" والمياه المعدنية وأكياس الشيسبى العائلى، وكأنهم فى الطريق إلى استاد القاهرة لتشجيع المنتخب المصرى، وليسوا ذاهبين بهدف "إسقاط النظام" كما طالب الشباب فى وقفتهم يوم 25 يناير الماضى.
لا أميل إلى المشاركة فى مظاهرات أو فعاليات احتجاجية، ربما بسبب طبيعتى، أو ربما لأن مهنتى تتيح لى وسيلة للتعبير عن الرأى، لا تتوافر لغيرى ممن يخرجون فى المظاهرات، وربما كنت جبانًا ولا أريد الاعتراف بذلك، ولكن على أية حال، خرجت فى 25 يناير بصحبة صديق لى إلى ميدان التحرير، ليس بهدف المشاركة، ولكن تحت شعار "تعالى نشوف الدنيا فيها إيه"، وعندما وصلنا والتحمنا بجموع الشباب، رأينا صورة مشرقة ومشرفة، لا داعى لوصفها بعد أن سبقنى إلى ذلك من هم أقدر منى على الوصف.
فأصحاب الثورة الحقيقيون هم هؤلاء الشباب الواعى الذين لم ترعبهم تهديدات الأمن ونزلوا إلى الشارع يطالبون بالحرية والعدالة الاجتماعية والقضاء على الفساد، وغيرها من المطالب المشروعة.. هم من دمعت عيونهم واختنقت صدورهم من القنابل المسيلة للدموع.. أصحاب الثورة هم من اخترقت أجسادهم الرصاصات المطاطية، وقتلتهم الذخيرة الحية، وداست على أبدانهم مدرعات الشرطة.. هؤلاء هم أصحاب الثورة وليسوا حاملى "الكانز" وآكلى "الجمبرى".
أصحاب الثورة الحقيقيون هم شباب 25 و28 يناير، وليسوا البرادعى والجمعية الوطنية للتغيير والإخوان المسلمين، وكل القوى السياسية التى تحاول الآن إقناع الشباب بالاستمرار فى اعتصامهم بميدان التحرير، حتى رحيل مبارك، على الرغم من أن الرجل حقق مطالب الشباب التى نادوا بها، بل إنه فى خطابه الأخير، حقق لهم فى أيام معدودة، ما عجزت عن تحقيقه قوى المعارضة مجتمعة على مدار سنوات سابقة.
وإذا كان هؤلاء الشباب الباقون فى ميدان التحرير يصرون على رحيل مبارك، فأهمس فى أذنهم قائلا إن الرئيس رحل بالفعل، عندما قرر تعيين عمر سليمان نائبا له، فالقضية بالنسبة له لم تعد تتمثل فى رحيله أو بقائه، بل فى كيفية رحيله بطريقة لا تهين تاريخه، وهو ما أكده فى خطابه الأخير.
وأقول لصديقى الذى هاتفته لأبشره بتحقيق الرئيس مبارك للمطالب التى نادى بها هو وزملاؤه، فرد على متشنجًا معلنًا عدم تركه للميدان حتى يرحل الرئيس.. أقول له: لا تجعل أحدًا يعبث بك ويدفعك إلى الجلوس فى الميدان ليظهر هو فى الفضائيات المشبوهة متحدثا باسمكم، معلنًا بوقاحة وجرأة لم نعهدها فيه، أن المطلب الوحيد رحيل الرئيس، على الرغم من أن مطلبه الذى طالما ردده كثيرًا، هو تغيير المادتين 76 و77 من الدستور.
أما القائمون على قناة الجزيرة فأنصحهم نصيحة خالصة لوجه الله: لابد من الاهتمام بالأداء التمثيلى لأصحاب المداخلات التليفونية الذين يهاتفونكم من الاستديو، فالشخص الذى هاتفكم لإخباركم بأنه أحد مساجين سجن القطا، وأكد أن هناك 70 جثة أمامه، لم يكن أداؤه على المستوى المطلوب، فقد حاول أن يظهر وكأنه مرعوب، ولكنه لم يستطع توصيل ذلك الإحساس إلى المشاهدين.. ثم كيف لسجين تم قتل زملاؤه أمامه أن يملك من الأعصاب ما يمكنه من إحصاء عدد الجثث ليؤكد أنها 70، وإذا افترضنا أنه استطاع الوصول إلى تليفون فى السجن.. كيف علم برقم القناة، إلا إذا كان هناك اتفاق بينكما قبل دخوله السجن على تلك المكالمة.. "ارحمونا بقى".
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة