ما زلت أتذكر إطلالاته عبر الفضائيات العربية والأمريكية، وهو يحض على ذبح العراق، وفى مرات أخرى يبرر ويفسر الفساد والإفساد، ويكاد لعابه بين شدقيه يكشف سائل البترو/دولار مختلطاً بدماء أطفال العراق.
إنه "المثقف" النطًاط الذى لا يستقر على مبدأ أو موقف، ولا يعرف الخجل.. كنت – وما زلت – أرى هذا النوع من "المثقفين" كنوع من السماسرة، فالسمسار يسعى بكل وسيلة للترويج لسلعة حتى وإن كانت فاسدة، وهو وسيط كل ما يهمه هو أن يحصل على "عمولته" أو "عمالته" من الطرفين، والقواد يلعب هذا الدور أيضاً حين يتوسط فى بيع "الشرف".
كنت أنتظر "إطلالة" هذا السمسار وأشباهه بعد 11 فبراير الماضى، ولم يخيب ظنى، فقد سارع بالظهور كى يحلل ويفلسف ما دار فى "المحروسة"، وبما يتناقض بشكل كامل مع تحليلاته وفلسفاته السابقة على مر السنين قبل هذا التاريخ.
يعتمد هذا "المثقف" النطاط فى نجاحه كسمسار على ضعف ذاكرة الناس، فمن لديه القدرة أو الوقت أو حتى الاهتمام لمراجعة كل ما قاله أو كتبه ذلك السمسار، وحتى إذا واجهه أحد بمواقفه السابقة، فإنه يغمض عينيه وقد يدمع أسفاً، وهو يدعى الوقوع فى خديعة أو مؤامرة، مبدياً الندم وراجياً المغفرة.. والناس فى بلادنا قلوبهم طيبة.. جد طيبة.
تلك الأقلام الحربائية التى تزغرد الآن فوق السطور مهللة بثورة الشباب وإدعاء الحكمة بأثر رجعى.. سقط عنها برقع الحياء.
لقد أسهمت سطوركم المسمومة فى خداع الحاكم والمحكوم.. فكم زينتم للحاكم سطوته وتباريتم فى التفسير والتضليل، فظن أهل الحكم أنهم لا ينطقون عن الهوى، وأن جموع الشعب راضية سعيدة هانئة.. وكيف لا، إذا كانت النخب المعتبرة تعكس – زيفاً وإدعاء – سعادة الشعب بحكمة الحاكم وعدله.. ولم تتأخروا فى وضع الكثير من السم فى القليل من العسل كى تخدروا عقول الأمة ووعيها.. وكيف لا، والناس تتطلع إليكم باعتباركم أفضل العقول وأخلص القلوب.
انقلبت تلك السطور الآن كى تخلع ثوبها القديم مسارعة بوضع الثوب الجديد قبل ضبطها عارية مفضوحة.. وكان أشرف لها لو اكتست ببعض حمرة الخجل وتمسكت بمواقفها السابقة، لو احترمت عقول القراء واعتذرت بوضوح عن جرائم القلم السابقة.. إن تلك الأقلام السمسارة مثلها مثل النظام القديم يجب أن تختفى.
أخشى أن الأمر يبدو وكأن روح الثورة قد انطلقت مثل سهم، فسقط "النظام" جثة هامدة.. وبينما واصلت الروح انطلاقها إلى عنان الآفاق، تزاحم "السماسرة" حول ما تبقى من "جيفة" السلطة الخامدة يتعاركون ويتدافعون، يلعقون ديدانها من أجل الظفر بنصيب من الفريسة.
من اللافت للنظر أن كل الأغنيات والأناشيد هذه الأيام هى ميراث فترة الستينيات، ومرحلة عبور قناة السويس.. وأظن أنها ملحوظة جديرة بالاهتمام، فهى تؤكد أنه فى زمن السماسرة عجز الفن والإبداع أن يقدم أى إلهام وطنى ذى قيمة، وعندما انطلقت روح مصر، كان عليها أن تغترف من مخزونها الحقيقى الذى كان مدفوناً تحت ركام من العفن.
إن زمن التطهير لابد أن يبدأ فوراً، قبل أن تلتف ثعابين الحواة حول طفل الخلاص البرىء، ولا أعنى بالطبع محاكم التفتيش ونصب المشانق، وإنما الفرز الصحى الذى يضمن تسليط الضوء على هؤلاء السماسرة الخفافيش، كى يمكن عزلهم بعيداً عن الرأى والوعى العام، لأن شرف 25 يناير لا يمكن أن تلوثه رغبات الانتقام أو تضيع وقته الثمين فى متاهات صيد السحرة والسماسرة.
لقد تفتحت الزهور فى ميدان التحرير، فانتشر الشذى بطول مصر وعرضها، إلا أن تلك الزهور الذكية تحتاج أيضاً إلى أن تشرع أشواكها كى لا تقطف قبل أوانها، وهى مهمة ثقيلة ولكنها ضرورية، لأن النقاء الثورى يشبه لحظة تطهر لا تدوم طويلاً، وحين ينصب سوق الصفقات السياسية سوف يسارع السماسرة المحترفون كى يروجوا لأسوأ بضاعة وأرخصها، وهم يجيدون ذلك، وقد فعلوه كثيراً، ويكفى النظر إلى تاريخنا الحديث كى ندرك هذه الحقيقة، فقد كانت الحقبة الناصرية وهجاً ثورياً أضاء مصر وما حولها، وتحقق بقوة الدفع الثورى العديد من الإنجازات على المستوى المحلى والإقليمى والدولى، حتى تزاحم السماسرة حول قيادات الثورة حتى اصطدم قطارها بهزيمة منكرة فى يونيو 1967، وفى مايو 1971 أعلن السادات "ثورته" على مراكز القوى، وانطلق إلى عبور مجيد عام 1973، ثم.. ثم سارع السماسرة مرة أخرى كى يلتفوا على السلطة، وينتزعوا ثمار دماء الشهداء ويرصونها أرصدة فى بنوكهم.
لقد حدث ذلك مع كل الثورات تقريباً، والأسباب عديدة، أهمها أن الثورى الحقيقى يتعفف عن التنازع حول "جيفة" السلطة، ويترفع على المكاسب الأنانية الضيقة، ويتوهم أن لعبة السياسة تدار بقواعد مثالية.. لذا يقال إن "الثورة تأكل أولادها".
أحذر من هؤلاء السماسرة الذين بدأت رؤوسهم فى الصعود، أنهم فى الغرف المغلقة الآن يبرمون الصفقات ويحددون مقدار العمولة والعمالة، يعصرون نفس الخمور القديمة كى يعبئوا بها قوارير جديدة، ثم يصبوا منها فى عقول الناس.. يحملون رايات الثورة، ويتجرعون بعض إكسير الشجاعة كى يتصدروا المشهد بمعسول الكلام ووردى الوعود.
إن الغفران ممكن، ولكن النسيان خطيئة، فمن شيمة الفرسان أن يغفروا للعدو المنكسر المنهزم، ولكن من الغفلة أن يتعامى الفرسان فى نشوة النصر عن حماية مواقعهم، فتتكرر أخطاء وانتكاسات الماضى.. وأرجو من شبابنا الطاهرين ألا يستمعوا لصوت الحكمة المزعومة من شفتين اكتهلا.. تباً لخيول العجز وأبقار الزمن الماضى وقرود السلطان.. تباً لسماسرة العهد الماضى والحاضر والمستقبل.. تباً لبائعى الخوف والخنوع فى أسواق العبيد.
أيها الأبناء.. خطوة صغيرة للخلف كى تتأملوا إلى المشهد كله، وتتضح لكم محافل السماسرة، تاريخهم مسطور عبر السنين مهما حاولوا اليوم محوه وإخفاؤه.. خطوة للخلف كى تقرأوا من زيفوا وعى الناس، وسجدوا للسلطان كى يلقى لهم بكيس عمولتهم أو عمالتهم.. أنتم أذكى من أن تسقطوا فى نفس الحفرة التى سقط فيها آباؤكم.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة