طه سيف الله

حديث المَرايا!

الخميس، 24 فبراير 2011 07:45 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا يختلف اثنان فى دوائره المتداخلة، عائلةً وعملاً وحزباً وحياةَ ليل، على نجاحه الباهر. أما عن ثقافته فحدث ولا حرج عن غرامه بسارتر ونقد العقل الديالكتيكى، وولعه بكانط ونقد العقل الخالص، ناهيك عن هضمه لجمهورية أفلاطون وميتافيزيقا أرسطو وجدلية هيجل ومقدمة ابن خلدون ورأس مال ماركس، فضلاً عن عبقريات العقاد وأيام طه حسين وغيرها من التراث الإنسانى عرباً وعجماً. أما عن حياته الاجتماعية فهو معشوق نساء المعمورة كافة، وعلى رأسهن زوجته السمراء ذات القد الناعم. كما أنه النموذج المثالى لأبنائه وبناته فضلاً عن شباب العائلة وفتياتها جميعاً. وهو حاصل على البكالوريوس ثم الماجستير مع مرتبة الشرف، ووسام الدولة من الدرجة الأولى فى مجاله، وبالطبع أول فريق الملاكمة فى الجامعة. وعلاوةً على ذلك فهو الوسامة بعينها، ومعروف للجميع أن بـراد بيت وأحمد عز (الممثل لا إمبراطور الحديد سابقا!) كليهما لا يغاران فى الأرض إلا منه، كان ذلك قبل أن تبدأ مشكلته منذ أيام قليلة، وهى تتمثل فى كلمة واحدة "المرايا".

فالطبيعى أن المرء ينظر فى المرآة فتعكس له صورته لا أكثر ولا أقل، ولكن الأمر مع صاحبنا مختلف، فقد بدأت مأساته ذات صباح عندما كان يحلق ذقنه كالمعتاد ففوجئ بأن المرآة تعرض ما يشبه فيلماً قصيراً متقطع اللقطات. لقطة له، فى الصف الرابع الابتدائى، وهو يدس قلمه الحبر فى شنطة زميله ورفيق مقعده قبل أن يشكو ويصرخ ثم ينتهى الأمر باكتشاف السرقة وعلقة ساخنة لصاحبه. ثم لقطة كاشفة وهو يغش فى امتحان الثانوية بطريقة عبقرية تضع كل قوانين الفيزياء أمامه دون أن يشعر المراقبون. ولم يتحمل اللقطة الثالثة ففر مذعوراً خارج الحمام وسارع بارتداء بعض ملابسه وقفز السلالم هارباً إلى عمله.

وفى السيارة كان له قصة أخرى، فبكل غرابة لم تعكس المرآة، كشأن المرايا، صورة السيارات الخلفية. وإنما عرضت فيلماً ملوناً لخياناته الزوجية المتكررة، قبل أن ينتقل الكادر إلى مشهده وهو يسوى الحسابات كل شهر مختلساً لنفسه بنود الإنفاق الوهمى فى إدارته، وقبل أن يكتمل المشهد بما يدمى قلبه الذبيح أوقف السيارة بفرملة عنيفة واستخدم الطفاية فى تحطيم مرايا السيارة الثلاث، قبل أن يتوجه رأساَ إلى أقرب محطة لمترو الإنفاق ليكمل رحلته إلى عمله تاركاً التويوتا موديل السنة فى عرض الطريق، على الأقل لا يوجد فى المترو مرايا!

وفى عربة القطار جلس يلتقط أنفاسه إلى جانب فتاة أنيقة تقرأ بهدوء فى كتيب ملون عن كيفية إعداد السلطات الشرقية، قبل أن تخرج مرآةً صغيرة من شنطتها لتسوى هندامها، فيما لمحت عيناه فى مرآتها مشهده بالألوان وهو يتلصص على جارته الجميلة من نافذتها الخلفية، والعجيب أن الفتاة واصلت تسوية هندامها!

وقفزاً من عربة المترو جرى صاحبنا بعيداً خارجاً من محطة لا يعرف اسمها وفى ذهنه ألا يذهب إلى أى عمل، وأن يسير على غير هدى فى ذلك اليوم العجيب والدنيا الأعجب. ثم خطر له أن يتصل هاتفياً وسط الزحام بصاحبه طبيب الأعصاب الكبير والذى أكد له، بهدوء، أنه فقط يحتاج لبعض الراحة أو قليل من البيرة بدون كحول تتبعها سِنَةٌ من النوم لتعود الأمور إلى طبيعتها، أو إجازة فى أى منتجع بدون زوجته!. غير أنه فوجئ، وهو يتكلم فى المحمول، بظاهرة عجيبة أجبرته على أن ينهى المكالمة مشدوهاً. فقد تحولت المركبات حوله إلى مرايا متحركة. وكذلك قامات الرجال الممشوقة، وأجساد النساء وهن ينثنين فى قارعة الطريق، وفاترينات المحلات، ولافتات الإعلانات، وأسفلت الطريق، وصناديق القمامة، وعلب المناديل فى أيادى البائعين، وأغطية الرؤوس، وإشارات المرور، والكلاب الضالة، وموتوسيكلات المرور.

واقترب عقله من الجنون وهو يرى الكون كله مرايا تعرض لقطات تكشف الماضى بكل تفاصيله المملة. ولم يجد أمامه إلا أن يحتمى بالمسجد القريب، فهو بيت الله، وبقوة اندفع مقتحماً جموع المصلين، بدون وضوء، قبل أن يرفع يديه قائلاً الله أكبر، ولكن القبلة أصبحت مرايا، ولما سجد لم يجد فى موطئ جبهته أرضاً بل مرايا، ويائساً خرج من صلاته، بدون تسليم، مهرولاً خارج المسجد، غير أنه لم يــر، وهو يبكى، على وجه الأرض إلا بعض المرايا.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة