أعلم علم اليقين أننى على وشك السير فى حقل من الألغام القابلة للانفجار بمجرد المرور الحذر على مقربة من محيطها، ولكن ليس هناك بد مما لا بد منه.
وأظن أن هناك فى مصر من يشاركنى بدرجة أو أخرى الإحساس بأننا نعيش فى مساحة رمادية تمتد بين ثورة شعبية اندلعت شرارتها فى 25 يناير وبين انقلاب متفق عليه بين رئيس البلاد "المكره" على التخلى عن منصبه وبين المجلس الأعلى للقوات المسلحة وحتى اللحظة الراهنة ورغم كل الوعود والخطو الوئيد فإن الثورة ما برحت غير قادرة على إنفاذ إرادتها بنفسها.
وليس من قبيل المبالغة فى شىء أن نقرر هنا أن جماهير الثورة قد دخلت رغما عنها كطرف ثالث فى هذا الانقلاب المتفق عليه بل هى فى واقع الأمر التى أوعزت به وزينته إزاء تعقد الأمور بصورة خطيرة باتت تهدد السلم الأهلى بسبب عناد محمد حسنى مبارك أو عجزه عن إدراك قيمة الوقت أو حتى إنكاره للكراهية الشعبية لحكومته وحزبه وأسرته وشخصه دفعة واحدة.
كانت الرغبة الشعبية فى التخلص من رأس نظام تعفن بعدما توطن الفساد فى أركانه دافعا للبحث عن مخرج يجنب البلاد حربا محتملة بين الشعب والقوات المسلحة، ولبعض الوقت راهن الشعب على أن مبارك سيعهد بصلاحياته لنائبه بعد هنيهة من تعيينه، ولما تيقن الجميع أن بينهم وبين ذلك خرط القتاد رضوا أن يستلم الجيش السلطة ليرعى الفترة الانتقالية بين حكم مبارك وبين العهد الجديد.
ومن جهتها رضيت القيادات العسكرية بأن تؤمن حياة الرئيس وبقائه بمصر نظير تخليه للمجلس العسكرى عن الحكم.
والمخاوف من هذا الاتفاق الثلاثى الأطراف تأتى من التعارض البين بين الالتزامات الناشئة عن الاتفاق الأكيد بين مبارك وبين قيادة الجيش من ناحية وبين الاتفاق الضمنى فيما بين الشعب والجيش من ناحية أخرى.
ففى لحظة الردع بالفوضى التى عرفتها مصر بعيد صلاة جمعة الصمود أحجم مبارك مرغما عن المضى قدما فى عناده وظل الجيش على موقفه من عدم إطلاق النار على المتظاهرين مثلما أحجمت الثورة عن الدخول فى مواجهة مع القوة الوحيدة التى تحول دون الجماهير الغاضبة ودون اجتياح النظام بشكل كامل ونهائي, ولا شك أنها كانت لحظة حكمة فارقة بغض النظر عن اختلاف البواعث والدواعى لدى الأطراف الثلاثة.
ولكن "الردع بالفوضى" ما عاد ليحكم تصرفات الأطراف كلها بما فيها نظام مبارك بل وحتى شخصه لو استطاع حراكا، فقد مرت تلك اللحظة وتغيرت الحسابات وستواصل تغيرها الحتمى فسبحانه وحده هو الذى لا يتغير.
أخاف أن يظن البعض فى مصر أن الأمر آل إلى الجيش على سبيل الهبة أو الأمانة من "الرئيس" محمد حسنى مبارك ذلك أن القول الذى ألقاه "السيد النائب" كان محض قول كاشف لحقيقة ناصعة فى كافة أرجاء مصر المحروسة وإن شئنا الدقة فإن سلطة مبارك وقبلها شرعيته وصلاحياته كانت قد انتزعت منه بالمعنى الحرفى للكلمة قبل أن يفكر مجرد التفكير فى القبول بخيار "التخلى" عن الحكم.
وأخاف أن يظن البعض أن فى رقبته دينا أخلاقيا أو ولاء له قدسية خاصة "للرئيس" محمد حسنى مبارك باعتبارات الرفقة فى السلاح ولو حدث ذلك فإنها ولا شك كارثة كبرى وخطيئة تاريخية بقدر ما هى مغالطة غير حصيفة بالمرة.
ذلك أن المعيار الأهم فى تقييم "الموظف العام" هو مدى قدرته على الالتزام بقواعد يوم الحساب حينما يفر المرء من أمه وأبيه و أخيه وبنيه وفصيلته التى كانت تؤويه أى بمعالجة تعارض المصالح الناشئ عن تقاطع اعتبارات المصلحة الوطنية مع الانحياز الشخصى لذى رحم أو نسب ناهيك عن الأبعدين من الأصدقاء أو الزملاء ونحوهم.
أخاف أن يظن البعض أن لوعد عارض قدسية تفوق قدسية قسم الولاء للوطن فالسوية بينهما هى أيضا كبيرة من الكبائر فكلنا "أمة واحدة" مهما اختلفت الأزياء وليس لجماعة ما أن تعلى من شأن علاقاتها الداخلية بين أعضائها على حساب الانتماء للدائرة الأوسع وإلا صارت وحدها "أمة من دون الناس"وفى ذلك شقاق له ما بعده.
أخاف أن يظن البعض أن "السيد الرئيس" ليس عليه شىء تجاه الحق العام بما أنه لم يطلب للمثول أمام النائب العام أو لم يتقدم أحد بشكوى ضده حتى يمنع من السفر وتجمد أرصدته كما فعل ببعض أعوانه ولعمرك إنه لظن موف بأهله إلى الضلال وكأن هؤلاء لم يروا اجتماع إرادة الأمة على إدانة مبارك، والشعب كما يعرف القاصى والدانى هو مصدر السلطات كلها وإذا حضر الشعب بطل التعلل ببعض ممن فوضهم فى سلطاته، وكأنى أسمع من يردد خرافات أزلام النظام البائد بأن من خرج هم بعض ملايين وليسوا كل سكان مصر عن بكرة أبيهم وفى ذلك إنكار لحقيقة الثورة ذاتها وكفر بها وليس من بعد الكفر ذنب.
أخاف أن يظن البعض، وبعض الظن إثم، أنها كانت استفاقة شعبية سرعان ما يطويها الزمن بغفوته أو تتوه فى أروقة الوعود الوزارية ومتاهات الصراعات السياسية ودهاليز النصوص القانونية فيطيل الأمد ويتلاعب ويلتف أملا فى أن يبقى الأمر على ما هو عليه وعلى المتضرر العودة إن استطاع إلى ميدان التحرير.
والمخاوف هنا أكثر من أن تعد أو تحصى.
ومما يعزز تلك المخاوف "المشروعة" تماما جملة من الأسئلة المشرعة بوجه كل من المجلس العسكرى وحكومة تصريف الأعمال وهى فى حقيقة أمرها من ميراث حكم "السيد الرئيس" جملة وتفصيلا.
السؤال الأول عن سبب التجاهل المريب من الكافة دون استثناء عن اتخاذ الإجراءات القانونية للتحقق من ثروة مسئول حكومى وذويه أدين من شعبه بالفساد وزيادة على ذلك نشرت تقارير دولية عن ثروته الطائلة، لقد استغشى الجمع ثيابهم وأصموا الآذان وكأن شيئا لم يكن فى ذات الوقت الذى تحقق فيه النيابة العامة مع مسئولين كانوا تحت رئاسته ويعملون أناء الليل وأطراف النهار حسب "توجيهات وتعليمات سيادته"، وحدها حكومة الفريق أحمد شفيق فى هذا الفضاء الواسع التى لم ينم إلى علمها أن عائلة "السيد الرئيس" قد أثرت ثراء فاحشا يوجب التحقيق وتجميد الأرصدة لحين انتهاء التحقيقات.من منا لا يعلم عن عمولات السلاح واستغلال النفوذ والاتجار بأراضى الدولة وممتلكات "الأب والأبناء والأم" فى قارات العالمين القديم والجديد ...من؟.
وكأننا فى عصر الجهالة الجهلاء وقتما كان يسرق الضعيف فتقطع يده بينما يكرم الشريف إن هو سرق.
ليس من الحكمة فى شىء هذا "التجاهل" الذى كان ديدن النظام البائد لحقائق يعد السكوت عليها سكوتا عن الحق أو بالحد الأدنى تقاعس عن استجلاء الحقيقة لتطمئن القلوب وتهدأ النفوس.
وعلى الذين يظنون أنهم قد "أخلفوا" فى أمر هذا الشعب أن يعلموا أنه لا حصانة لأحد مهما أسبغ على نفسه من صفات وحرى بهم جميعا أن يفصحوا بشجاعة الرجال عن خبيئة نفوسهم بشأن موقفهم من ثروات "السيد الرئيس" وعائلته.
والخيارات واضحة هنا فإما إعلان عن أن ما تردد على أسماع الشعب هو محض ترهات وشائعات لا أساس لها من الحقيقة وأن "سيادته" قد حرر إقرارا للذمة المالية يستطيع الشعب الاطلاع عليه عبر الجهاز القضائى وإما إجراء لتبرئة ذمة "السيد الرئيس" من الشبهات التى تحوم حوله وما لذلك من سبيل سوى التحقيق القضائى كما يحدث مع غيره من مسئولى العهد البائد اللهم إلا إذا كان هناك من يعتقد أن "سيادته" مثل أبى الهول من رموز مصر العتيدة التى تسمو عن كل شبهة وتنزه عن كل خطأ وتتقدس عن التحقيق من قبل القضاء المصرى.
السؤال ببساطة أو قل بسذاجة لماذا يتجاهل الجميع إجلاء الحقيقة عن ثروة عائلة مبارك وفى إجلائها إما تبرئة لساحة الرجل أو استعادة لمقدرات بلد يعيش أهله الكرام مسغبة لم تعهدها بلاد النهر الخالد؟.
والسؤال الثانى عن تجاهل الحكومة لنصوص اتفاقية وقعت عليها مصر قبل عدة سنوات وهى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد وفيها قسم خاص له عنوان بليغ و"استرداد موجودات الفساد".
فمن العار فعلا أن تتنادى دول وبنوك وتعلن عن أنها على استعداد للتعاون مع الحكومة المصرية للتحقق من الأرصدة المالية "للسيد الرئيس" والعائلة المقدسة وكبار المسئولين "لو" طلبت الحكومة ذلك بينما اختارت حكومة الفريق شفيق أسماء بعينها وأغفلت بتلقائية اسم "السيد الرئيس" وذويه رغم أن المذكور الأخير لا حصانة له من الناحية القانونية، اللهم إلا إذا كان الولاء الشخصى مقدما على القسم الذى يقسم عليه الوزراء عند توليهم لمناصبهم.
والسؤال الثالث عن حقيقة ما بات معروفا من قيام بقايا النظام البائد بالتدمير المنهجى للوثائق والمستندات التى بحوزتها للإفلات من العقاب الجنائى الواجب وكيف لم تتخذ الحكومة التدابير الوقائية اللازمة وهى قانونية وقائمة لإبعاد هؤلاء عن مواقعهم بالإدارة الحكومية مع ما يشكله بقائهم بها من تهديد لسير التحقيقات.وكأننا أمام "مؤخرة" نظام تؤمن له انسحابا دون خسائر.
ويحق لنا أن نسأل أنفسنا بلا حرج عن إمكانية إنجاز التحولات الثورية والديمقراطية بواسطة الحراس الأمناء والأصدقاء الأوفياء لنظام شهدت التقارير الدولية المحايدة بأنه أحد أكثر الأنظمة فسادا واستبدادا فى العالم ناهيك عن رأى الشعب الذى عاين بنفسه آثار فساده وقمعه، إن فى بقاء حكومة تصريف الأعمال بأشخاصها وقناعاتها انتقاص لا شك فيه من استحقاقات الثورة خاصة وأن جل ذوى المواقع القيادية بالنظام البائد قد تورطوا بصورة أو بأخرى فى أعمال الفساد ولو بالصمت ولم ينج منهم إلا من أدركته رحمة الله.
يقول المثل الشعبى "يخلق من ظهر العالم فاسد" فما بالك بظهر الفاسد.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة