لعل المأزق الذى يحيط بجهاز الشرطة المدنية فى هذه الآونة يدعو للتدبر فى الأمر أكثر مما كان عليه فيما مضى، وتطل علينا الآن مناشدة متعددة المنابر الإعلامية فى شأن الأزمة التى أوقع فيها هذا الجهاز المهم نفسه فيها، حتى تعالت الأصوات التى تنادى بضرورة المسارعة بالعلاج (النفسى)لأفراد هذه المؤسسة، تماما على الطريقة التى عولج بها جنود مصر فى أعقاب نكسة 1967( مع فوارق كثيرة، واتفاقات أكثر..!!) وللتشخيص المبدئى لهذه الحالة التى صارت مأزقا تاريخيا، كشفت عنه ثورة الخامس والعشرين من يناير، فإننا نرى مجموعة من العناصر قد تشابكت وتكاملت، حتى أخرجت لنا هذا المشهد (المرضى) الماثل أمامنا الآن: أولا أوعز النظام – المنقضى بفساده – فى عقيدة جهاز الأمن الداخلى، أن مهمته (وعقيدته القتالية) الأساسية، بل والوحيدة، هى حماية الرئيس، بل وحمايته من الشعب، تحديدا..!! وهو ما جعله يعلن ذلك صراحة من خلال تغيير شعاره من
(الشرطة فى خدمة الشعب) إلى الشرطة والشعب فى خدمة الوطن (يقصد الرئيس) ولاحظ أن الشرطة تأتى قبل الشعب، فى صياغة هذا الشعار الخائب..!! وأتذكر هنا موقفًا، وقت حريق مسرح بنى سويف، حينما كلفنى محافظ الجيزة بمعاينة كافة المسارح ودور العرض الحكومية والخاصة للتأكيد على استعداداتها فى التصدى للحرائق، وكان بصحبتى فى هذه المهمة قائد الدفاع المدنى بالجيزة، الذى سألته – مستنكرا – كيف تكون سيارة المطافى فى بنى سويف بخراطيم تالفة؟ وأين تلك السيارات (الحديثة) التى نراها فى الاستعراضات العسكرية، وفى المناسبات الاحتفالية؟ وما أزال أتذكر إجابته الصادمة، فقد قال لى إن مثل هذه السيارات مخصصة فقط للخدمة على قصور ومقار الرياسة..!! وحينما تقتصر مهمة وعقيدة الأمن الداخلى فى مصر على شخص الرئيس (وأسرته) فلا يجب أن نندهش أو نستنكر التعذيب فى أقسام الشرطة، والمعاملة المتدنية للمواطن، حتى بات ارتياد قسم الشرطة ضربا من المغامرة!! ثانيا: معظم أقسام الشرطة فى القاهرة والمحافظات، تغلق الشوارع التى تقع فيها فى وجه المرور، بغرض تأمينها!! تأمينها من الشعب والمواطنين نظرية فى غاية الغرابة!! ثالثا: كمائن شرطة المرور، لا يعارضك فيها ضابط، ومن يوقفك جندى بسيط، يأخذ منك الترخيصات، ويذهب بها إلى (الباشا) القابع فى سيارة على جانب الطريق، ومهما كانت الترخيصات سليمة فإنك لا تستردها إلا إذا ترجلت من سيارتك وتوجهت إلى (الباشا) لتأخذها وعادة ما تجده ضابطا شابا فى عمر أولادك، يتلذذ بمناداتك باسمك دون ألقاب، حتى لمجرد الاحترام.. وياويلك، لو استعجلت الجندى فى إعادة ترخيصاتك وأنت فى سيارتك..!! رابعا: لعل منا الكثير من لا يعرف سبب تمسك ومقاومة الداخلية للحكم القضائى الذى قضى ببطلان الحرس الجامعى، ولكن يبطل العجب حينما نعرف أن أفراد هذا الحرس لهم اليد الطولى فى اختيار العميد والأستاذ، بل والطالب أيضا.. حتى اختيار ضيوف الندوات الجامعية التى تتضمنها خطة الأنشطة الطلابية، فالأمن الجامعى هو من يختار هذا، ويمنع ذاك، حتى يكون هو المسيطر على مدخلات ومخرجات ثقافة شباب الجامعة، ولعل فى ذلك ما يفسر انفجار شباب التحرير..!! خامسًا: تضخم السلطة (النفسية) لجهاز الشرطة، خيل لأفراده أن الأسلوب القهرى هو الأوحد والمثالى فى تنفيذ مهامهم، فنرى منهم من يتعامل مع مواطنى صعيد مصر بطريقة تتنافى مع عادات وتقاليد وثقافة الصعيد، حتى أن الشرطة تحتجز إحدى السيدات من أجل الضغط على ابنها ليسلم نفسه، كذلك، ولأن الشرطة منوط بها جمع الأسلحة، فإنها تجبر أحيانا بعض المواطنين على شراء أسلحة وتسليمها لهم اتقاء شرهم، وحتى تكون الشرطة مؤدية لمهامها لدى قياداتها..!! ولا يخفى على الكثيرين أن جهل الشرطة بعادات وثقافة البدو هو السبب وراء الأزمات المتتالية بين الأمن، وبدو سيناء ومطروح، فضلا عن الصعيد وليس لدى الشرطة وقت لدراسة العادات والتقاليد، فهى من باب (الكلام الفارغ) وليس أدل على ذلك من الأحداث الأخيرة فى الواحات الخارجة بالوادى الجديد، وهى المنطقة التى يمكن أن تمر أكثر من عشر سنوات دون حادثة قتل واحدة بها، نجد أنه بسب أحد ضباط المباحث، تحدث مجزرة بشرية، فى توقيت عصيب على المستوى القومى، وعلى مستوى الشرطة تحديدا لذلك فقد بدا جهاز الشرطة وكأنه يتلذذ بخلق العداوات مع طوائف الشعب المصرى، شماله وجنوبه.