نال الشعب المصرى حريته بعد أكثر من ثلاثة عقود من القهر وكبت الحريات، وانتشار الفساد والفوضى والرشى فى كل مناحى الحياة فى مصر، وفى هذه الثورة عبر أيامها الثمانية عشر كان معظم من تواجد فى ميدان التحرير متعلمين، وكان الشباب الذين أطلقوا الشرارة الأولى التى اندلعت على إثرها الثورة كلهم متعلمون من خريجى الجامعات والمعاهد المصرية والأجنبية، وأعتقد جازمة أن هذا هو السبب الرئيس لنجاح هذه الثورة فى تحقيق هدفها المبدئى بإزاحة نظام مبارك، أى إن بذور الثورة طابت تربتها ودامت بالعلم والتعليم سقياها، فكانت الثمرة سرعة بزوغ فجر الحرية كما لم يحدث فى التاريخ ! فلم تذكر لنا كتب التاريخ عن ثورة شبيهة بهذه أسقط بها شباب فى أعمار شبابنا النابه المتعلم نظامهم الحاكم الظالم فى هذا الوقت القياسى، صحيح أن مئات الشهداء سقطوا ولكن هذا هو ثمن الحرية والتغيير.
لقد علمنا التاريخ أنه دائما فى أعقاب الحروب والثورات يجب أن تكون الثمرة تغييرا على قدر ما قدم من التضحيات، والتغيير المراد تحقيقه من هذه الثورة ليس هو تغيير النظام أو الرئيس أو ملاحقة الأذناب أو محاسبة المخطئين أو البكاء على الماضى فحسب ، وإنما هو ـ كما قال أستاذنا الدكتور أحمد زويل ـ هو أن يكون لمن يحكم رؤية تستشرف المستقبل لترسى قواعد الإصلاح على أسس علمية، إذن فالتغيير المنشود بدأ بالفعل بالإطاحة برأس النظام الفاسد وهو أول الغيث ثم ينهمر بعد ذلك إن شاء الله مطر الخير إصلاحا وتغييرا حقيقيا، إن صدقت النوايا وحسن ترتيب الأولويات.
لقد ذكر القرآن الكريم أساس عملية التغيير فى آياته: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )ـ الرعد 13 ، ففى هذه الآية الكريمة يذكرنا الله تبارك وتعالى أنه لا يغير أحوال الناس إلا أن يغيروا هم ما بأنفسهم، ونحن الآن بدأنا بالفعل تغيير ما بأنفسنا ولن يغير الله أحوالنا، وما حل بنا وبمجتمعنا عبر ستة عقود إلا أن نكمل مسيرة تغيير ما بأنفسنا، أى أن نتغير من داخلنا، فكيف نحدث هذا التغيير؟ لن يتأتى لنا إحداث هذا التغيير المنشود فى أنفسنا إلا بالانتباه لما غفل عنه حكامنا وغفلنا نحن المحكومون بالتالى عنه،وهو التربية، فمنذ ثورة 23 يوليو تغير اسم وزارة المعارف العمومية إلى وزارة التربية والتعليم، وتفاءل الناس خيرا بتغيير الاسم وظنوا آنذاك أنه سيكون اسما على مسمى، ولكن ما حدث فى العقود الستة التى تلت هذا ( التغيير) الشكلى هو أن أهملت التربية إهمالا كاملا، وبعدها بعدة سنوات أهمل التعليم، وبمرور السنوات خرج إلى الوجود أجيال وأجيال، العامل المشترك بين معظمها أنهم أهملت تربيتهم كما أهمل تعليمهم، ولا غرابة ؛ فقد نسى أولو الأمر قول شاعر النيل حافظ إبراهيم مخاطبا المصريين على لسان مصر:
وارفعوا دولتى على العلم والأخلاق فالعلم وحده ليس يجدى
والأجيال التى أهمل تعليمها وأهملت تربيتها لا حصّلوا علما ولا اعتصموا بأخلاق، فلم يجدِ بناء الدولة التى لم تعتن لا بالعلم ولا بالأخلاق .
وأعتقد أن فصل التربية عن التعليم فى وزارتين منفصلتين قد يكون هو الحل لهذه المعضلة، لكى تتجمع جهود المخلصين فى وزارة منفصلة للتربية تكون مهمتها تربية النشء على أسس أخلاقية قويمة، ولا يقتصر دورها على الأطفال؛ بل يجب أن يشمل الكبار، فتتغير طريقة الناس فى التعامل، ويُقضى بالتدريج على كل الظواهر السلبية التى عششت فى نفوس المصريين، ونخرت كالسوس فى عظام وأعمدة المجتمع حتى انهار النظام الحاكم فى مصر فى أقل من عشرين يوما! وهذا السقوط المدوى السريع لنظام حكم لثلاثين عاما يجب أن يكون عبرة لمن سيأتى إلى سدة الحكم فى بلادنا:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
إن المصريين جميعهم، وجميع طوائف الشعب التى خرجت تحتفل بالنصر السريع، ويهنئ بعضهم البعض بإسقاط النظام فى وقت أقصر مما حدث فى تونس؛ يجب أن يعوا الخطر المحدق بثورة 25 يناير، فنعود كما كنا (وتعود ريمة لعادتها القديمة) ، (وكأنك يا أبو زيد ما غزيت) .. لا قدر الله .
التربية ثم التربية ثم التربية، يجب أن تكون شغل حكام هذا البلد الشاغل وهمهم الأهم، كى تعود مصر إن شاء الله كما كانت منارة الثقافة والعلم والأخلاق فى العالم أجمع، أتمنى أن تصل كلماتى لكل من يهمه الأمر لأنه يهمنا جميعا ، والله من راء القصد .
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة