سنوات كثيرة كانت عظام الدولة تبدو ظاهرة، وحالة الضعف والفشل ظاهرة، لكن أحدا لم يتصور أن السوس نخر عظام النظام وجهازه العصبى.
ولم يكن هذا الانهيار بفعل خارجى، بل كان النظام نفسه يأكل بعضه وأدواته متصورا أنه يمارس السلطة ويكوش عليها وكان يوم 25 يناير كاشفا لانهيار المؤسسات ودولتها.
كان الحزب الحاكم والرئيس والحكومة يتحدثون عن هيبة الدولة بينما هم يدمرون هذه الهيبة، عندما تفشل الدولة عن تلبية مطالب الشعب فأنها تفقد شرعية وجودها، ويصبح العقد بينها وبين المواطن مفسوخا.
الآن.. ليس وقت التاريخ، لكن الأحداث المتسارعة التى جرت منذ صيف عام 2010 حتى شتاء 2011، غيرت شكل مصر ملات الصدور بالغضب والغليان، دون أن ينتبه النظام فى غروره أنه يتهاوى ويفقد كل يوم أرضا، كانت تراكمات السنين تبدو تجاعيد على وجه الرئيس ونظامه، بينما هو يعيش عزلته الدائمة، بعد ثلاثين عاما من البقاء فى الحكم، كان فى سنواتها الأولى منتبها أو متأثرا بما رآه فى منصة العرض العسكرى، لكنه طوال عشرين عاما تضخم للدرجة التى لم يعد فيها يرى غير ذاته والمحيطين به، يرى العالم من أوراق وتقارير وملخصات، تخفى أكثر مما تظهر، ونسى أنه يحكم بلدا كبيرا عريقا.
تساقطت أوراق دولة المؤسسات واحدة وراء الأخرى على أيدى الرئيس وبرلمانه وابنه واختفت دولة المؤسسات لتحل مكانها دولة عجوز تعوم فى الفساد والفوضى.
ولهذا فإن ثورة يناير التى يتوقع أن تغير شكل مستقبل مصر، كانت أسباب الثورة متوافرة على كل المساحات والأصعدة وكانت ردود الأفعال المتأخرة للرئيس مبارك طوال السنوات الماضية نموذجا لتردى حالة المؤسسات، وتبدى هذا فى اللحظات الأخيرة، حيث عجز الرئيس عن تقدير أو توقع حجم الغضب والثورة وصورت له أجهزة الأمن المختلفة أنه محصن من كل خطر مع أن الشهور الأخيرة كانت دليلا على أن النظام يتهاوى وأن دولة المؤسسات كانت صرحا من خيال سرعان ما هوى لا خلال ساعات.
لقد فوجئ النظام بقوة شباب الثورة وإصرارهم وإرادتهم، لكنهم كشفوا ضعف النظام فاصروا على اسقاطه، لأنهم وجدوا نظاما يفشل فى السياسة والاقتصاد ويفتقد للعدالة ويستأسد فى مواجهتهم لدرجة إطلاق الرصاص الحى بينما المواطنون يحلمون بالتغيير وحقهم فى المشاركة ببناء وطنهم وفوجئوا بالرصاص. لقد بدا النظام فى عز توحشه هشا وضعيفا، لايمتلك غير العصا الغليظة، التى يوجهها لصدور وأجساد عارية وحناجر تطلب العدل والحرية.
وطوال التصاعد اختفت الحكومة باستثناء وزارة الداخلية واختفى مجلس الشعب وعندما خرج قياداته وقيادات الحزب دافعوا عن المجلس المزور والنواب المزيفين.. لكنهم جميعا أو غالبيتهم انقضوا على النظام أو هربوا من السفينة التى رأوا غرقها.
بدت مصر خالية من الدولة وقبضتها القوية المزعومة وبدت هشاشتها عندما خلت من الأمن فى أعقاب انتصار الثوار، الأمن الذى روعهم بدلا من أن يقوم بدوره الطبيعى فى حماية الأرواح والممتلكات، تلقى أمرا بالانسحاب وإخلاء الساحة، لا أمن ولا حراسة.
لقد تآكلت عصا الدولة طوال سنوات من الحكم الفردى الذى يتصور الحاكم فيه أنه قادر على كل شىء، وأنه ليس فى حاجة إلى مجالس حكم ولا إلى مستشارين لأنه يرى تعليماته تتحول إلى قرارات لا تنفذ عادة. وبرلمان يتم تكوينه مرة تلو الأخرى بالتزوير والتقفيل، ويرفع شعار سيد قراره.
وجهاز الإعلام الضخم الذى ينفق المليارات بدا أمام الثورة أو حتى قبلها يعيش حالة من البلاهة والفشل والتنفير بينما يتردد أن وزيره يكوم الثروات والنفوذ بينما يعجز عن إدارة الأزمة وحده لقد كان الإعلام دليلا آخر على انهيار دولة المؤسسات فلا هو إعلام تابع للشعب ولا هو ناجح للدفاع عن الدولة ولا حتى الدفاع عن النظام.
لقد ساهم كثيرون فى فرعنة النظام بينما أخلوا الدولة من أدواتها وعندما جاءت ساعات الجد لم يجدوا الدولة. لقد كان التداخل بين السلطات مقدمة للقضاء على دولة المؤسسات ولم يعد هناك إمكانية للتمييز بين السلطة التشريعية أو التنفيذية أو القضائية، فالسلطة التشريعية تضم وزراء من السلطة التنفيذية نجحوا بالغش واحتلوا مواقعهم بين نواب الشعب، كما كانت سيطرة الحزب الوطنى على النواب والوزراء بالأغلبية المصنوعة تمكنهم من التحكم فى سير العمل التشريعى والرقابى اختفى مجلس الشعب وتحول الدكتور فتحى سرور إلى مجرد ملقن للنواب بينما يحركهم أحمد عز علنا ليصبح مجلس الشعب خادما مطيعا لإرادة أمانة السياسات يمنع إصدار قوانين الاقتصاد الحر ومنها قوانين مكافحة الاحتكار كما يتحكم فى حركة محاسبة ومراقبة أداء الحكومة واندمج الحزب الوطنى فى البرلمان والحكومة ليصبحوا كيانا واحدا يصعب فيه محاسبة أى مسئول أو مساءلة مخطىء واتسعت دائرة نهب المال العام والاستحواذ على الأراضى. وظلت السلطة القضائية هى الأخرى تابعة للحكومة من خلال وزير العدل والحزب الوطنى أو قيادات الحزب الحاكم ولجنة السياسات التى أخلت البلد من السياسة لصالح التوريث وجمدت أى مشاركة سياسية.
كانت دولة المؤسسات تتحول رويدا رويدا إلى دولة أفراد ومصالح فلا تنظيم سياسى وإنما تجمع مصالح فى الحزب الحاكم، وربما كان الثوار فى 25 يناير يتصورون أنهم سيواجهون دولة تفضل الصالح العام وأمن المواطنين على أمن شخص أو أشخاص، لكنهم وجدوا انفسهم أمام عصا الأمن الغاشمة لتنفى تصوراتهم عن الدولة التى تعمل لصالح شخص واحد، وتوجهت الطلقات المطاطية والحية والقنابل والأسلحة المحرمة إلى أجساد الشعب، وفقدت الشرطة شرعيتها وفقدت الدولة هيبتها من أجل الدفاع عن الرئيس وحده والمحيطين به، وكان وزير الإعلام يطلق الأكاذيب مثلما يطلق وزير الداخلية الرصاص بل وتردد أن وزير الإعلام كان يدفع لبلطجية حتى ينضموا للبوليس فى قتل الشباب، وهو الذى غلف كل العدوان على الفمواطنين بالأكاذيب وحاول الترويج لشائعات عن جهات أجنبية أو أجندات غامضة وقبلها كان قد سد منافذ التعبير وصب الإعلام فى قالب واحد لخدمة الوريث وزبانيته وأعوانه.
انتهت المؤسسات على أيدى نظام الرئيس الفرد واستعدادا لتوريث ابنه وكانت الانتخابات الأخيرة مثالا على تهاوى الدولة وتفكك المؤسسات، وكانت الدولة تفقد هيبتها عندما عجزت عن علاج المواطنين وتركت ملايين يأكلهم الكبد الوبائى الفيروسى كما فقدت هيبتها لأنها عجزت طوال سنوات عن توفير مدارس حقيقية وتركت التعليم للمغامرين اكتفى مبارك بأن يطرح برنامجا للانتخابات الرئاسية الصورية ولم يتابعه وكان يردد أرقام حكومته وحزبه الوطنى التى كانوا يرددونها سفهيا مثل نسبة النمو الوهمية التى لم يفكر فى اختبار حقيقتها. وكانت العشوائيات تنمو بحجم مدن وتتسع فى أحزمة لم تلفت نظر مبارك ولا الحكومة ولا الحزب الوطنى الذى كانت قياداته مشغولة بالتوسع الأفقى والرأسى للثروات والنفوذ بصرف النظر عن خطورة كل هذا على الدولة والنظام، كان الحزب الوطنى يزداد ضعفا ويجذب الكراهية والرفض بينما قياداته تتباهى أن الشعبية تتضاعف، بينما النظام كله يتهاوى ويعمل يوم بيوم.
كانت مشاهد العجز النظامى تتبدى فى حكومة تعجز عن مواجهة أمطار خفيفة فى الشوارع أو تنظيف القمامة ناهيك عن القطارات المتهالكة والتى كانت تتصادم وتكشف عن غياب الخطة أو الخط. لقد كانت حوادث انقلابات القطارات واحتراقها فى الصعيد أو كفر الدوار دليلا على أن النظام بلا تحويلة أو قدرة على السير على قضبان.
من سنوات بعيدة كان النظام المصرى يتحدث عن دولة المؤسسات وكان هناك من يتصور أو يصدق أن دولة المؤسسات موجودة كانت تلك الصورة تقوم على بنيان يبدو متماسكا طوال سنوات ، كان الحديث عن دولة المؤسسات بدأ مع الرئيس السادات والقصد بدولة المؤسسات أنها الدولة التى تسير حياة الناس بنفسها وبدون تدخلات ولا تحتاج تعليمات الرئيس أو الوزير والوزير عادة يكون سياسيا يضع الخطط أو ينفذ القوانين.
لكن خلال الفترة من بداية الثمانينيات إلى الآن، وتحديدا خلال السنوات العشرين الأاخيرة، كانت تلك الدولة تتآكل وحتى البيروقراطية التى كانت فخرا للمصريين وكان القول أو التصور أنه حتى لو اختفت الحكومة فإن الدولة أو المؤسسات تسير لكن خلال السنوات العشرين الأخيرة على الأقل كان النظام يتاكل من الداخل بفضل التشبث بالسلطة واستبعاد الشعب من أى معادلة.
وكانت السنوات العشر الأخيرة هى التى أنهت أى علاقة للشعب بالنظام وكانت دولة المؤسسات المزعومة تتآكل وتختفى وتخفى ضعفها خلف قوات الأمن الكثيفة التى بدت مثل عصا سليمان وكان النمل يأكلها من الداخل. سنوات كانت تتراكم سحب الغضب والقنوط والرفض، ويتضاعف الفقراء وينتقل الملايين من الواجهة إلى العشوائيات والمقابر وفى المقابل تقوم أبنية ضخمة تسيطر على الصورة الثروات تتكدس فى اتجاه عدد قليل بينما تنتزع حقوق وثروات الملايين.
كانت تلك هى إشارات أنهت العقد القائم بين المواطن والدولة، وفقد مبارك الهيبة والاحترام، وتهاوت صورته قبل أن يتهاوى نظامه. لقد كان رد فعل مبارك على الأحداث متأخرا، ولأنه دمر المؤسسات فقد عجز عن توقع حجم وشكل المظاهرات المليونية، قبلها عجز عن فهم رسائل تونس، أو المنتحرين أمام البرلمان وفى الشوارع، كما عجز عن توقع حجم وشكل المظاهرات، ولما فهم وخرج ليدلى بخطاب باهت كان الوقت قد فات، فقد أقال الحكومة بينما كان الناس قد فقدوا الأمل فى قدرة الرئيس على الإصلاح، وعندما عين نائبا كان الشعب قد أعلن أنه بلا فائدة ولابد من رحيله، ولما فوض سلطاته لنائبه كان النظام قد تهاوى ولا يزال يمسك بكاميرا وقنوات بث انتهت صلاحيتها فى مواجهة ملايين من أجهزة الإعلام الحقيقية على الإنترنت، كان النظام قد مات وما زال مبارك يتحدث كرئيس.
لقد عجز مبارك ونظامه عن ادراك حجم التغير فى العالم أو فى مصر لأنه قضى على المؤسسات وعلى أدوات الحكم من أجل أن يحكم وحيدا أو يورث البلد. لكن الثورة كشفت ضعف النظام وتحلله وانهيار دولة المؤسسات.
أكرم القصاص يكتب: مبارك قضى على مبادئ الشرعية وفشل فى قراءة التحولات فكانت بداية الانهيار الكامل..والثوار فاجأوا النظام بقوتهم لكنهم فوجئوا بضعفه وانهياره وعجزه عن توقع حجم الغضب
الأحد، 13 فبراير 2011 12:38 م
الرئيس السابق محمد حسنى مبارك
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة