إن أهم ما حققته ثورتا تونس ومصر هو تدمير الكثير من المسلمات التى حولها الطغيان والظلم إلى حقيقة تثبت الهزيمة المنتهية للشعوب العربية، من بين هذه المسلمات البغيضة: التوريث، مع بداية رياح الثورة العربية انتهى عصر التوريث الذى سنه الحاكم العربى فى النصف الأخير من القرن الماضى والذى تحول بقوة الأمر الواقع إلى سيف ديموقليس المسلط على رقاب الشعوب العربية المنهكة والمنتهكة فى أدنى حقوقها.
يبدو أن آفاق عالم جديد فى الوطن العربى بدأت تلوح بقوة حاملة فى أثرها، مثل الوادى الجارف، الآمال الكبيرة، وكذلك الأخشاب الميتة والفضلات التى رماها التاريخ بعد أن تعفنت وأصبحت معوقًا لكل تحول.. من بين الجثث التى بدت طافية على هذا النهر الجارف، جثة التوريث التى مثلها بامتياز زين العابدين بن على الذى رهن أصهاره تونس وتقاسموها كما يحلو لهم، وتبعته البقية بلا تردد بعد أن صغروا بلدانهم إلى الحضيض وأصبح الإرث العظيم الذى يزن القرون مثل الحالة المصرية، بين أيد قليلة كانت تتهيأ لاستلام التركة لولا انتفاضة الشباب.. طبعا ليسا الوحيدين، هناك رئيس اليمن الذى وصلته نيران التغيير وأصبح يعلن من بعيد أنه لن يورث نجله.. وننتظر أن يحذو حذوه آخرون يتحسسون كراسيهم ويبادرون إلى المقترحات الاستباقية حتى يتفادوا رياح الثورة الساخنة.. والمنتظرون فى القائمة الطويلة كثر الذين كانوا ينوون توريث بلدانهم أو أشلاء أوطان، لعائلاتهم أو قبائلهم.
من أين نشأت فكرة التوريث البغيضة المعادية لأى نظام جمهورى حتى فى خصائصه الدنيا؟ كيف تم ابتداع شكل بديل متخلف، كنت أطلقت عليه فى سنة 1988 عندما كتبت روايتى: فاجعة الليلة السابعة بعد الألف: الجميلكية La Royaupublique، فهو نظام يضم أسوأ ما أنجبته الجمهورية وأسوأ ما أنتجه نظام الملكية، وأبغض ما احتوته الأنظمة القبلية والبدائية.. منذ تحقيق الاستقلالات الوطنية فى العقود الثلاثة المتتالية الأربعينيات والخمسينيات والستينيات بدا واضحا منذ اللحظات الأولى أن انسحاب المستعمر لن تخلفه أنظمة فى مستوى تطلعات الشعوب العربية نحو العدالة والحقوق والمواطنة الكاملة وغير المنقوصة.. مضت السنوات الأولى بأنظمة تحاول تجميع التناقضات المختلفة بدون القدرة على الحسم الإيجابى معتمدة فى عملها على القوى الأكثر رجعية وتخلفا مخافة الاصطدام معها ورهنت فعل التحديث بصناعات منفصلة كليا عن خصوصيات البلاد العربية الزراعية.
وتصورا أنه بالتكميم والتقتيل والكذب والجهل يمكنهم بناء وطن عادل وحى ومعاصر.. من نتائج ظلم هذه الأنظمة أنها أفرغت بلدانها من طاقاتها الحية والفعلية. فهيأت السرير لقوى التخلف والبؤس الفكرى والحياتى والقصور الحضارى لتضع البلاد العربية بين مخالبها. بدا كأن الورثاء الجدد استلموا البلاد العربية نهائيا ولم تعد الانتخابات إلا شكليات لا تعنى الشىء الكثير.. الذى يحكم أكثر من ثلاثين سنة لا يتصور أن من يستلم البلاد بعده سيكون أفضل منه فى التسيير، عقلية الأبوة التى تتكون مع الزمن ليست إلا وسيلة من الوسائل القمعية التى تضرب كل إمكانية للثورة أو للتغيير، وتصبح فكرة قتل الأب بالمفهوم الفرويدى ضرورة قصوى لأى تغيير. هذا الأب الحاكم، الخائف على وطنه يذكِّر بقوة بالديكتاتور فى أمريكا اللاتينية كما وصفته أعمال كبار الروائيين من أمثال غارسيا ماركيز، أليخو كاربانتييه، استورياس، وفارغاس يوسَّا وغيرهم الذين جعلوا من فكرة الأبوة حالة مرادفة لنهايات الطغيان الذى يظن الديكتاتور من خلالها أنه استقر نهائيا ولا يدرك أنها صورة لبداية تحلله وموته. فقد دفن ورثاء حركات التحرر الوطنى كل قيم النبل التى بنت الجمهورية عليها مشروعَها الأساسى: الديمقراطية، حرية التعبير، الحق فى المواطنة، العدالة الاجتماعية، التوزيع العادل للثروات، والتساوى فى الحقوق والواجبات. فعل التوريث تم بالتدرج التاريخى. الاستيلاء على تسيير البلدان العربية عن طريق انقلابات تصحيحية على أمل العودة إلى المسار الطبيعى للجمهورية وكأن الذين سبقوهم انحرفوا عن الطريق الذى خطه الشهداء بتضحياتهم ودمائهم؟ بعدها، عندما استتب لهم الأمر وكونوا شبكة غير محدودة من المصالح والمصاهرات، استلذ الحكام العرب كراسيهم وأصبح بقاؤُهم إنقاذا للأمة وذهابهم خرابا لها.. لا يوجد نظام عربى واحد تم فيه الانتقال بشكل ديمقراطى قبل بدء فعل التوريث الذى تحول إلى شكل من أشكال دوران السلطة داخل البيت الواحد أو العائلة الواحدة أو القبيلة الواحدة، وكأن البلاد لم تنجب إلا عائلة تفردت بكل الإمكانات العقلية والمادية والتسييرية.. وفجأة فتحنا أعيننا على نظام تُشكل فيه العائلة بمعناها الأكثر ضيقا العصبَ الأساسى فى نظام الحكم.. وبدأ نظام جديد يلوح فى الأفق هو اختزال عظيم لكل قيم الانتهازية والتخلف والقبلية فى صورها الأكثر تهالكا: نظام الجملكية. نظام لم يسبق أن رأيناه فى التاريخ البشرى الذى تحددت فيه الخيارات بقوة الثورات: إما نظاماً ملكياً أو نظاماً جمهورياً. الجملكية استفادت بانتهازية نادرة من منافع النظام الملكى الأكثر تجبرا واستفادة مالية والكذب على الشعب بسلسلة من الخطابات الجوفاء تجاه الحاكم الذى يحب شعبه، ومنافع النظام الجمهورى الأكثر سوادًا من حرية فى النهب وديمقراطية فى التقتيل، ودُفع بجزء كبير من أفراد المجتمع إلى الحفر الضيقة باتجاه الجوع والسجون والظلم. وبدت الجملكية كأنها النظام الأوحد القادر على جمع الممارسات الانكشارية الجديدة التى كونتها الأنظمة العربية المسماة جمهورية، وخلق نوع من التحالف المصلحى الضيق والنفعى.. والغريب فى الأمر هو أن الجملكيات التوريثية تولدت عن فساد ميراث حركات التحرر الوطنى التى اختزلت كل الرداءات والخيبات فى نظم غريبة وإخفاقات الأنظمة فى العدل.. فكيف يمكن لجمهوريات مبنية على أساس تحرير الأوطان والسير بها نحو التطور والديمقراطية بعد ثورات مميتة وقاهرة وجارحة وخطابات مليئة بالعدالة الاجتماعية ونظم ديمقراطية معاصرة، تتحول فجأة إلى ميراث يبين إلى أى مدى وصله البؤس الفكرى وبؤس التسيير.. لنصبح فى نهاية المطاف أمام أنظمة لا اسم لها إلا الديكتاتورية التى ولَّفت كل شىء بحسب أهوائها من أحزاب سياسية لا تحمل من السياسة إلا اسمها، ودساتير فصلتها بحسب إراداتها تضمن لها الاستمرار الأبدى فى الحكم، حتى الموت لا يزيلها لأن الوريث يكون قد هُيئ سلفًا محاطًا بمافيا مستعاشة على هامش الصفقات الكبرى التى تسيرها العائلة وحواشيها.. المال، عصب السياسة، ينحصر كله فى العائلة الحاكمة.. الثورة فى تونس ومصر هزت نظام الجملكية فى أسسه العميقة، وأنهت هذا النظام المتخلف والميت ونسف به نهائيًا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة