مثل زين العابدين بن على لا يعرف لحظة الصدق مع النفس، أو مواجهة الذات بغير ما اعتاد عليه من مكابرة وعنا، فقد اعتاد الرئيس المخلوع وأمثاله من المستبدين – ربما لطول عهدهم مع الكذب والتضليل – وربما أيضاً غرورا بالقوة تصوير أو تصور الأمور على غير حقيقتها والاتجاه بها نحو المراوغة والتسويف، فظل حتى لحظاته الأخيرة حريصاً على الاحتفاظ بكل صفاته الذميمة فى انتظار اللحظة التى ينقض فيها على معارضيه ليستمر بعدها فيما كان عليه، بل وأكثر عنفاً وصلفاً مما كان.
حين وقف زين العابدين بن على ليخاطب شعبه لأول مرة معترفاً بأنه لم يكن يفهم مواطنيه، وأنه كان طوال الوقت مخدوعاً بالتقارير التى تسوقه له حاشيته تحت عنوان "كله تمام"، وقد أدرك مؤخراً أنهم كانوا يضللونه، وأن كل ما يطلبه من شعبه بعد أن استوعب مطالبهم المشروعة أن يمهلوه فترة أخرى لكى يغير من أسلوبه فى الحكم ويتمكن من التجاوب مع إرادة الجماهير الغاضبة.
لم يكن ابن على حتى هذه اللحظة جاداً فيما قاله، فقد كان يطلب مهلة لإعادة ترتيب أوراقه من جديد، وفرصة أخرى للمناورة والالتفاف على مطالب الجماهير، ولأن الجماهير التونسية قد اعتادت على الكذب والمراوغة والعناد من رئيسهم، فلم تسمح له بالمزيد من ذلك كله، والاستمرار فى الحكم ليقوم بعملية "تنفس صناعى" لنظامه المنهار أو عملية تدليك لقلبه الذى توقف عن النبض، يعود بعدها لما كان عليه من ممارسات مرفوضة.
أدرك الشعب بفطرته السليمة أن الرئيس الذى تسلم الراية وسط ثورة شعبية عارمة وكان قد وعدهم بعدها بالقضاء على الفساد وفتح أبواب الحريات.
ثم لم يلبث بمرور الوقت أن انتهى إلى ما هو أفظع مما كان عليه سلفه دون أن يتعلم الدرس أو يأخذ العبرة، إن رئيساً هذا هو حاله، إذا وعد أخلف، وإذا قال كذب، وإذا ائتمن خان، فلا محالة إذن من خلعه، لأنه لم يعد جديراً بالثقة بعد أن منحها له الشعب فبددها، بالتحايل والخداع.
وقد كان الشعب التونسى محقاً فى موقفه، لأن لو كان الرئيس صادقاً فى
توسلاته ووعوده لقال شيئاً آخر غير ما قاله، خاصة أن سلطة اتخاذ القرار كانت لا تزال فى يده ولم يفلت زمامها منه بعد.
بدلاً من التوسل ولهجة الاسترحام التى لم تكن تليق برجل فى مكانه ومكانته كان عليه أن يتخذ قرارات حاسمة، يبدأها معترفاً بمسئوليته الكاملة عما حدث، وأنه مستعد للمساءلة وأنه يدعو لمؤتمر وطنى تحضره كل رموز المعارضة بمختلف تياراتها السياسية، فى الداخل والخارج على أن يصدر قراراً بالعفو العام عن جميع المعتقلين السياسيين والقبول بمبدأ تعويضهم عن طريق القضاء والاحتكام إلى القضاء أيضاً لمحاسبة كل حالات استغلال السلطة والنفوذ والإثراء غير المشروع، ومصادرة أملاك وأرصدة كل الذين حازوا ثرواتهم بطرق غير قانونية من المسئولين، وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية يمتنع عن خوضها فى أقرب فرصة وفقاً لدستور جديد يجرى الإعداد له عبر لجنة محايدة من رجال القانون على أن تطرح مواده على الجميع لإجراء حوار مجتمعى حولها.
لو كان زين العابدين جاداً فى نواياه الإصلاحية التى وعد بها بعد إعطائه مهلة لتدارك الأمر، وقام "بانقلاب أبيض" على نظامه وعلى نفسه أولاً ليواجه مواطنيه الثائرين بسلسلة من القرارات الإصلاحية بدلاً من توسلت غير مجدية، واسترحام من لم يرحم هو من قبل، ولكن لأنه كان لا يزال يمنى نفسه بالبقاء والاستمرار، مستنداً إلى السياج الذى بناه من حوله بالقوة، فقد ظل على عناده ومكابرته وإن كان قد أبدى شيئاً من الأسف والندم.
فلم يكن ذلك إلا من قبيل المناورة والمراوغة، لم يدرك زين العابدين بن على – وغيره من المستبدين – أن الاستناد إلى القوة غير كافٍ للاستمرار والبقاء، وإنها يمكن أن تحدث أثرها فى الوصول به إلى درجة من العناد والمكابرة تفقد مواطنيه أى شعور بالأمل فى التعبير والإصلاح على يديه ومن ثم تصل بهؤلاء إلى درجة من الإصرار على التخلص منه مهما كان ثمن ذلك باهظاً.
هكذا يفعل الغرور والعناد بأصحابه من الطغاة والمستبدين حين يدفعهم الشعور بالقوة إلى الاستعلاء، وبدلاً من أن تحمى عروشهم تصبح العامل الأول فى هدمها.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة