السماء الزرقاء تحب الصقور، والجاثم فوق صدر عدوه بطل، والملك من مَلك، وكل واحد فى هذه الدنيا يعرف قدر هذا الملك: الحكمة والرصانة والصدق والابتسام الدائم، فقد كان معروفا عنه: أن الذى يرشه بالماء يرشه بالدم، وهو أول من خلع أبواب الحارات، وأزال متاريس المدن منفتحاً على العالم، ومعروفاً عنه أيضا: دقة الصياغة فى الكلام، ومراعاة مقتضى الحال، وحسن الهندام، وإسداء النصح، وقول الحق، والورع، والغرام باللغلوغ المسلوق مع فتة اللسان، لذلك فقد كان هو - وراء ظاهرة انتقال المجتمع من مجتمع زراعى إلى مجتمع صناعى ثم من مجتمع صناعى إلى مجتمع استهلاكى انفتاحى، مما أدى إلى أنه فى أزهى عصوره انفتاحاً: توصلت الجماهير إلى سلاطة الكوسة بالمسطردة، وقد اندثر هذا النوع من السلاطة نتيجة وباء أصاب قلب الكوسة بالديدان، ولكن - أشهر ما عرف عنه: أنه صاحب مذهب خطير، يضع العقل فى درجة أقل من القلب، على أساس أن الشكل العام للقلب دائرى، مما يربطه مباشرة بدورة الكون، وقد ساهم المعاونون على انتشار هذا المذهب، مما أدى إلى انتشار أشكال القلب مخترقا بالسهم فداءً للمحبوب، أو لشدة الوله والعشق، وقد انتشر هذا المذهب بين كراسات التلاميذ وهدايا العشاق و المحبين.
***
البداية..
كان الملك يعلم أن أريكة الحكم جاءته بغير عناء، لذلك فإن أشد ما شغل فكر الملك خلال فترة حكمه هو - مباركة الرب له - وأن يرصع اسمه بآية - أو أن ينقش اسمه على أبواب التاريخ: بحادثة أو موقعة أو ثورة أو حرب، وقد حاول كثيراً النقش والطرق على أبواب التاريخ: بأمجاده ومشروعاته وأفكاره وشعاراته ومذاهبه، لكن - جميع نوافذ وأبواب التاريخ، أغلقت قبل اعتلائه أريكة الحكم.
وباستثناء ما يزعمه الأعداء والكارهون للملك، سارت الظروف به كما هى مقدر لها، حيث قام فور اعتلائه الأريكة بعمل هام وهو: توكيد حكمه وسلطانه، لذا فقد كان يحب أن يجلس فى شرفة قصره، وفى هدوء دخان نرجيلته المحفوفة بقطع الحشيش، ويطلق بعض الأقاويل والشائعات - متعمداً أن تثير شيئاً - ثم تطلق وسط الجماهير والدروب، ليعرف رد فعل تلك الجماهير، إزاء ما أشاعه، بينما يرقد فى قلبه ما كان ينتويه ويعد العدة له، لتفاجأ به الجماهير شيئاً واقعاً وسط مصمصة شفاههم واندهاشهم، وقد كان هو وراء هذه الظاهرة العجيبة، عندما جلس ذات مرة فى الشرفة - وبدون نرجيلته الشهيرة - وأطل فى السماء ثم أخذ يحصى النجوم ويحدد مساراتها، وبعدها نجح فى اختزال تلك النجوم إلى ثلاث نجمات تعلو الكتف لتحدد السطوة والعز والجاه، وبعد فترة تفكير أخرى – ربما فى بيت الراحة – عبث الملك فى تلك النجوم الاجتماعية التى تعلو الكتف، ليحيلها إلى صقر أو بلبل أو أبى قردان، وقد كان شعبه يعرف أنه صاحب كل هذه المعجزات والإنجازات.
كل هذه الأمور أعطت للملك حجما ووزنا وقيمة، جعلت التقرب منه - يفرضه - وعى البحث عن الأمن والأمان فى مواجهة عالم يتكالب للإيقاع بأى ضعيف، لذلك ظل طوال فترة حكمه فى مأمن من كل الأحداث والزوابع، حيث أخذ هذه الحكمة من النعام الذى يربيه ويعتنى به فى حديقة قصره الخلفية، وقد كان النعام كثيراً ما يدفن رأسه فى الأرض عندما تضطرب الأجواء فوق الأرض، وقد انتقلت تلك الحالة النعائمية إلى شعبه الجميل.
***
العام الملعون..
حتى كان ذلك العام الملعون، والذى لا يمكن أن نقارنه بأعوام راحلة منصرمة، حين جاءت الفتوى من المستشارين والمعاونين، وقالوها للملك صراحةً:
- تنازل عن العرش..
كان الملك – العظيم – لا يخضع عادة لأوامر مستشاريه وذوى الدراية والعلم، بصفته الأطهر والأرقى، وقد حاول أن يتذكر كيف أنه لم يضع أوامر شبعه فى عقله، وقلبه، وأسفل إبطيه، ولم يعنه شيء من شئونه، فقد كان فى مثل تلك الأمور ينظر بنصف عين لمستشاريه، ثم يبتسم ولا يعلق.
لكنه اضطرب – مع أنه أشاع ذات مرة: أنه يملك جسارة أسد وتصميم مناضل ودهاء ذئب وانقضاض فهد، وتضاربت الظنون حول ما حدث له فى تلك الليلة، ولا نعرف أين قضى بقية ذلك اليوم، وقد حاول الملك اجتياز صحراء التيه وصولا إلى واحة الراحة، ويقال إن الملك – حينذاك – ظل يبكى فى القاعة الكبيرة واجفاً خائفاً على أريكة الحكم ومفاتيح المدن.
وبالرغم من طول مدة حكم الملك، فقد رغب أن يستمر إلى الأبد، ولكى نفسر كيف أراد أن يحدث ذلك، كان يجب أن يعتلى الأريكة أحدٌ من صلبه، فنظر بعينه العسكرية فى صوره، ورأى حاجة البلاد إلى قائد شاب من ظهره.
وحاول الملك أن يتذكر وهو جالس - فى الديوان - على مقعده الوثير الذهبى المساند، تاريخه، لكن ذاكرته وهنت وأصابها التلف، وظلت عيونه تلمع فى صورته الكبيرة ذات الإطارات الضخمة المذهبة، إنها تصنع مشهداً يثير الرجفة والحب والاطمئنان، فوق جدران القاعة الواسعة، وقد ظل الملك - رغم عجزه وإرهاقه وسنوات عمره - يقارن بين ملامحه فى الصورة المذهبة وبين ابنه القادم إليه مبتسماً كشمس البكور وخجلاً كقمر يسقط خلف جبل.
لكن المؤكد أنه لم يبد اعتراضا على طلب مستشاريه ومعاونيه، إذ أنه صبيحة اليوم التالى استدعى ابنه - وجاءه ابنه الأثير والأكثر حباً إلى قلبه – ومسح الملك بكف يده على شعره، وشعر أنه أقرب إلى الله من أى وقت مضى.
***
المعضلة..
وفى عصر أحد الأيام، استدعى الملك المستشارين وذوى الدراية والعلم، وقدم لهم ابنه الأثير، كى يخلفه فى الجلوس على الأريكة، فحاول البعض الاعتراض، وحاول البعض المناقشة، والملك مصمم، فأجمع المستشارون على أن هذا أمر من المحال تحقيقه، حتى استعاذ أحد المستشارين من الشيطان الرجيم وتوكل على الله وقالها للملك صريحة:
- لا يصلح.. لأن مواد الدستور لا تسمح بذلك!
وغضب الملك غضباً شديداً، وصمم, وحاول البحث عن حل، فلم تعد تصلح جلسات الشرفة أو بيت الراحة للتفكير، وقد استدعى فى نهاية ذلك اليوم، وزير مراقبة الشمس والقمر، ووزير طرد الأرواح الشريرة والأذى, وألقى فى حجرهم تلك المعضلة، وظلت نظراته معلقه على صورته، فربت طارد الأرواح الشريرة على كتفه مطمئناً وواعداً بوجود حل، وأنه يجب أن يخلد إلى النوم، بعد تلك الجلسة الساخنة فى ديوان القصر.
وفى الصباح، اجتمع طارد الأرواح الشريرة بالكهان والوزراء والمستشارين، على قارعة طريق مترب، مرشوق بالحشائش ومرشوش بالماء ومحفوف بالنخيل والكلاب والحراس، لكى يجدوا حلاً لتلك المعضلة، ولكن محاولاتهم باءت بالفشل، إزاء تصميم وتشبث الملك بالأريكة وبخليفته.
ومع غروب شمس اليوم الخمسين بعد المائة، اجتمع الملك بوزرائه ومستشاريه، وقال لهم فى هدوء: هل توصلتم إلى حل؟
فضحك الوزير الأول وتثاءب، وضحك الوزير الثانى وترنح، وضحك مستشار وتمتم:أنا أعرف الحل!، وغضب الملك وسب الوزيرين وضربهما بعصاه الرفيعة وطردهما، ثم وضع يده على كتف مستشاره وصحبه إلى شرفة القصر، حيث تناولا العشاء، واستمع منه إلى الحل.
وقد شرح المستشار للملك: أن مواد الدستور يضعها رجال تعرف ثنايا هذا الدستور، وأنه قد فصل لكى يناسب من يجلس على الأريكة، وأنه خلق ضعيفاً بدون تماسك، لذلك نستطيع أن ننفذ من بين ثناياه، وقال المستشار أيضا: يجب أخذ موافقة الشعب على التعديل وعلى الابن، لذا يجب على الابن أن يمر وسط الجماهير فى عمق الوادى وحواف الصحراء، كى ينال التأييد والحب والبركة، من شعبه المبتسم المهلل، وفى نهاية الجلسة أطل الملك فى وجه المستشار الفذ وابتسم.
وفى الصباح - احتفى الملك بالمستشار الفذ، وأنعم عليه بجائزة الاستحقاق ووسام الدولة، وعينه وزيراً لتلوين بيض شم النسيم.
وقد استراح الملك بقية ذلك اليوم، عندما وجد طريقاً يتسرب منه إلى أروقة وردهات التاريخ، فقد كان يعرف أن شعبه الطيب الصابر الصبور، والذى عاش فى عهده يلوك كلاماً لا يفهم معناه، ويبتسم دون أن يعى المناسبة، لذا فقد عاش الشعب تحت سلطانه، فى هناء ورغد وطمأنينة، وإحساسهم بأن الأعداء لن يطالوهم فى مخادعهم.
واجتمع المستشارون والمعاونون، وأجهدوا قرائحهم خلال تلك الشهور، ليجعلوا من مواد الدستور ما يناسب معتلى الأريكة، واختطوا ورقة جديدة للتعديل، ثم اختطوا ورقة أخرى تناسب القادم، واحتفل الملك بوضع أساس الدستور الجديد العظيم، والاستعداد لموافقة الشعب العظيم.
***
التشييد..
تدفقت الأموال والأخشاب والعاج والأبنوس والجواهر والحرير والقطيفة والألوان والأنوار، وبدأ المهندسون والنجارون والفنانون والعمال فى إصرار ونشاط وسخونة فى تشييد الأريكة، وتهذيبها فى شكل أنيق وجميل، يدل على ما وصل إليه صناع البلاد من الحذق والمهارة وحسن الذوق ودقة الصنع، ونقش عليها بالذهب الخالص غير المخلوط بالنحاس – عز مولانا الملك الهادى المنير – عز نصره.
وفور انتهائهم، وضعت الأريكة فى منتصف الميدان، أمام القصر الكبير، وبدا الشعب يحتفل بهذا المهرجان، وجاءت وفود من دول أجنبية، لكى تشاهد الأريكة، وتأخذ الصور التذكارية بجوارها، تأكيداً واعتزازاً وتفاخراً بهذه الأريكة و العصر الذى شيدت به، وبمن يعتليها.
***
ليس كأى يوم..
هذا ليس يوم أحد، هو يوم كل واحد، وقام الملك بإخطار كل وزير نازح فى أصقاع الأرض، للتبليغ بيوم التأييد، يوم العيد، عيد للجماهير وكلمة الشعب، يوم يقول الدستور كلمته، اليوم الذى يبدأ عنده التاريخ يتحدث لغة جديدة، وأصبح ذاك اليوم مشهوداً فى تاريخ البلاد.
وكان يوم التنازل واستلام مقاليد ومفاتيح الحكم، يوماً مشهوداً ضاجاً، مزينا بالكلوبات والأضواء، وهطلت السماء رذاذاً لهذا الموقف، فشعر الملك بامتنان السماء له ورضاها عنه، وطردت الملائكة الشياطين من مكان الاحتفال، وخرج الملك وابنه فى شرفة القصر، التى تطل على الميدان الفسيح الذى تتوسطه الأريكة، كى يسلمه مقاليد الحكم والأريكة ومفاتيح المدن، وضج المكان بالأعيرة النارية وأطلقت المدافع طلقات التنازل، وامتلأت الأرض والسماء بالفرح العظيم.
وهبط الملك وابنه للميدان، وكان الملك مرهقاً لكنه ظل يقظاً ومبتسماً، من زمن طويل لم يهبط ويسير وسط الجماهير، وحملة التأييد تتشكل بسرعة، إذ جاءت الخيول، واستعد فرسانها بالبنادق، وحمل البعض المدافع، والبعض الآخر لازال يتبختر بالسيوف وضوء الشمس يغازل انعكاسها.
واندفع موكب الابن - وظلت الشمس تنير الطريق طوال النهار، واستلم منها القمر والنجوم المهمة عندما أرهقت فى بدء الليل، فى زهو يخترق الموكب القرى و النجوع والتلال والعزب والكفور، أمام المصاطب وداخل الشوارع والحارات وفى قلوب الأزقة، يستقبلهم العمد فى القرى والكفور، والشيوخ فى البادية، فى احتفاء ريفى وصحراوى وكرم مبالغ فيه، والموكب يزحف، والجماهير المحتشدة على جانبى الطريق ترفع ساريات الموافقة والامتنان، واستحالت القرى والنجوع إلى دروب متزاحمة بالجماهير، تنفث الهتاف والدعاء متجهة إلى فارس الفرسان، وكل حبة رمل وقطعه طين تمتزج بالزغاريد وطلقات الرصاص وهتاف الجماهير.
كان الابن – قد مكث على ظهر جواده، يلوح بيده - يحاول أن يتماسك ويبتسم، فقد كان مرهقاً من التجول عبر جغرافيا الوادي، وعندما هلت نسائم الشجر والزرع من الوادى الأخضر، بدأ جسده ينشط وعيونه تلمع، وعيون الجماهير تطفح بالتألق والتوهج، حتى اقترب الموكب من الميدان الكبير، فظل الموكب يحارب الزحام والجماهير المندفعة، كى يصل إلى موقع الاستلام والتنازل واعتلاء الأريكة.
***
لم يكن يخطر بالبال – ببالى أنا كاتب القصة – وبال تلك الجماهير - أنه فى لحظة ما، وبعد هذا المجهود الشاق، وفى عز فرحة الجماهير، وعند اللحظات الحاسمة الدقيقة لاعتلاء - الابن - الأريكة، أن، يخترق الجماهير والسيقان والحراس والهتاف ومشاعل التأييد- كلب- كلب أجرب ضال، ويقترب من الابن وجواده، فاضطرب الملك - وظن الجميع أنه سيقفز عليه ناهشاً عضاضاً مغتالاً – حينئذ – استعد الحراس لسحقه واغتياله، غير أن الكلب شمل الميدان والجميع بعيونه الكابية، وحك ظهره فى درع أحد الجنود، وقفز على الأريكة، ورفع قدمه اليمنى الخلفية، وبال ومضى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة