معصوم مرزوق

آنست نارا..

الأربعاء، 07 ديسمبر 2011 10:14 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كان يمشى على إيقاع الحزن إليها، من آخر خط منقوط لحدود بلاده، لينقب فيها عن تاريخ مدفون، مقتفياً أثر صلاح الدين..

ذهب مشغوفاً بحكايات لا تنفد، وصليبه فوق الظهر وإكليل الشوك يدمى جبينه، بين الطرقات المزدحمة بالمنهوكين، يلهث فى الماضى بعيون ترنو للغد، وخلفه كلاب الصيد تتشمم رائحته، وجواز سفره ملىء بالأختام العربية.

معتقل فى سجن ضلوعه، والقيح ينز، والليل السادر فوق مدينته لا يعقب فجر.. بسمل، قرأ الأوردة عليها وخطى، فالتقطت عيناه بعض الكلمات العبرية، تقيأ عينيه بعض الوقت وتريث لكن لا زالت عبرية!!..

لا زال يفتش بين تلال غافية، عن ينبوع أو أرض دماء جوفية، هل يعقل أن شقوق الأرض قد ابتلعت كلمات الدم العربية؟.. يتساءل.. هل أصبح دمنا بترولاً؟ وإن صار، ألا يعود للكينونة الأولى..؟.. من فينا خدع الآخر؟ من منا باع الآخر؟.. هل يملك شط أن يخدع أصداف الشط؟ وشموخ الجبل أيبقى إن باع رماله؟..

أسئلة مثل هموم مسافر يرحل طول العمر..

قال لها متأوهاً:
- عنقود العنب بكرم مدينتنا الشرقى، عصروه فنزف دمائى ودموعى، امرأة حملت بضع قرون، قتلوا الأم ووأدوا المولود..
هزت كتفيها، عدلت نظارتها فوق عينيها الضيقتين، قالت:
- كلاب كل زمان تنبح والقافلة تسير!
ابتسم شارداً عبر النافذة إلى الأفق الغروبى، همهم:
- عاد الحجاج من الجبهة، ألقوا الجمرات وطافوا، بثياب الإحرام يعودون، ليطوفوا بمدينة فسق..
بينما ذهبت لتعد طعام العشاء، كان يفكر: "من نحن فى هذا العالم؟ ولأين تأخذنا الخطوات؟ بحوار الدم بدأنا فى التنظير، ووضعنا القلب بآلات التقطير، ما كدنا نبلغ بضع سنين فى العشرين حتى ساقونا للميدان، كنا أطفالاً لا زلنا، نحلم بالبيت المسحور وقصور الجان، تركنا الدمية بين يدينا فى المنزل، كى نحمل بدلاً منها الرشاش، ودعنا الأمس الزاهى فى طرقات مدينتنا، بحدائقها ونواصيها، وصبايا كن بخاطرنا غدنا المأمول، وبيوتاً فوق الرمل بنيناها، لجهامة جبل لا ينطق إلا باليأس، لجحيم الحرب وليل الغارات القاسى، وخنادق تأكل أحلى سنوات العمر، مجموعة أطفال كنا فى خط الجبهة، أصبحنا بعد مرور الوقت شيوخ، صرنا لا نتقابل إلا فى صفحات الموتى، والآلة دارت فاغتالت كل اللحظات"..

كان يسير منحنياً، مثل اليهودى الذى أفلس يفتش فى دفاتره القديمة، يبحث عن الرصيد القديم كى يصنع للحاضر قيمة.. خسر الرهان الأخير، وفى الليل عاد سكيراً حزينا، وقهقه يسخر من كبوته، وكان لصوت سقوطه رنين، وشاهدها: مهرته الخاسرة، تسير على نظرة الشامتين، تجرجر أقدامها من ضلوعه وفى دمعة العين تستكين.

استلقى على فراشه، فلما غفا رأى منازل تسقط وأشجار تقصف وأزهار تقطف، أعاصير تحمل رأسه لكفه وتدفن عينيه تحت الرمال فما عاد ينظر.. لكنه سمع الصهيل الأنين يزاحم سخرية الشامتين، يحاصر كل الحروف العقيمة، يفسح للحروف القديمة، فلما أحس بأنه يسترد أنفاسه، دوى انفجار فما عاد يسمع..

صرخ ينادى تلالاً تسافر وأقمار ترحل، لكن صوته طوته الرياح، كانت ذيول تهتز حوله وصوت نباح، صرخ ينادى.. ولكن رحل الصباح.. فما عاد يصرخ.

عندما قابلته أول مرة فى ندوة الحزب، أذهلته لباقتها وجرأتها، كانت على قدر متواضع من الجمال، لكنها أصبحت فى عينيه أجمل النساء، شرح لها منذ البداية مشكلته:

- أوصانى عمى - زوج أمى - أن أسكت، حتى لو أكلوا لحمى فوق موائدهم، أو ملأوا بعرقى كؤوسهم، وتباروا فى فض بكارة حزنى.. أوصانى عمى أن أبكى، أن أبذر فى صمتى بذرة صبرى، أرويها دمع الحرمان البارد، بليالى الغضب المكبوت، علمنى عمى أن مقاطعة الوالى كفر الكفار وزندقة الفاسد، وبأن الوالى ظل الله على الأرض، وكلاب الوالى قدسية، حتى الأنياب المغروسة فى كبدى قدسية، علمنى أن أكتب مدحاً فى الوالى أو مرثية، أن أعبد فى هيكل حزنى تمثال الوالى المعبود، أن يمضى عمرى أوهاماً، أفنيه ليعيش الوالى، والعم حكيم ووقور، والكلمة منه دستور يحفظه آلاف الجوعى..
-
أومأت برأسها فاهمة، ضحكت فى صدرها "هذا هو الزوج المناسب تماماً"..

لكنه آنس ناراً، فلملم حزنه، ورتق جرحه، وأسرع عدواً إلى المبتدأ، جمع الفؤوس، التروس، البنادق، كون حرفاً.. بخر عرقه، دمه، ودمعه، صار سحاباً يظلل أفقه، أرعد فيه فأهمى مداداً، وكانت سطوره حوارى "عيسى" وأسباط "موسى" وخلفاء محمود الأربعة..

خيروه بين الموت نزيفاً وبين الموت انتحاراً، فتصفح النيل كى يسأل عذراءه المستباحة عما إذا كان الموت اختياراً، وعاد قريراً خلال الشقوق، بأرض تجفف فيها النماء، وانساب عذباً يغنى ويمدح "حابى" السماء، ناسجاً خيمة من ضلوعه وغطاء فوق العرايا، فإن سألوه يقول جهاراً: بوجه الرياح، وظلم الليالى.. آنست ناراً..








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التعليقات 8

عدد الردود 0

بواسطة:

مواطن متغااااظ

عله يأتينا منها بقبس

عدد الردود 0

بواسطة:

z-yahya

ايه الحلاوه دي يا معصوم

عدد الردود 0

بواسطة:

محمد عبد الله

نار موسى

عدد الردود 0

بواسطة:

فؤاد

من اجمل ما قرات

عدد الردود 0

بواسطة:

فؤاد

تخاريف

عدد الردود 0

بواسطة:

كنت رايق وصحتني

ملعوبة من ( زد يحيى)

عدد الردود 0

بواسطة:

خالد شراقي

جميل جدا ياأستاذ

عدد الردود 0

بواسطة:

سعيد

انتا تاني

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة