انقضت المرحلة الأولى من انتخابات مجلس الشعب، ولست معنيا بنتائج التصويت وما يمكن أن تسفر عنه، فإذا كنا قبلنا الاحتكام إلى صندوق الانتخاب فلنتقبل نتيجته أيا كانت.. يعنينى الآن أداء الناخب والشعب المصرى فى هذه الجولة، فقد أثبت هذا الناخب أنه أكثر ديمقراطية وتسامحا ووعيا من معظم الفرقاء السياسيين وأفراد النخبة فى مصرنا، خرج هذا الناخب وتحمل الطابور لساعات لأنه يريد عبور المرحلة الانتقالية فعليا وعمليا، بينما كثيرون حاولوا تعويق هذه العملية، كل لأسبابه، منهم من يخشى أن يعرض على الصندوق وعلى الجمهور، ومنهم مستفيد من حالة السيولة والارتباك التى نعيشها، ومنهم من لا يؤمن عمليا بالفعل الديمقراطى.
فى الطابور الانتخابى خرجت المرأة المصرية بصورة مبهرة، بينهن من تركت أشغالها وبيتها ومنهن من تحاملت على كبر السن والأمراض المزمنة، لكن الأهم من ذلك كله أن الطابور ضم المحجبة والمنتقبة والسافرة، تجاورن جميعا، بلا عداء أو رفض، لم تسخر إحداهن من الأخرى ولم تتهكم عليها، الطابور الواحد جمعهن، برغم اختلاف الآراء والمواقف الفكرية والأيديولوجية، لم يسجل الطابور حضوراً نسائيا فقط، لكن الحضور القبطى كان واضحا ومؤكدا، وهذا يعنى خروج الأقباط مما أطلق عليه فى العقود الأخيرة العزلة القبطية، من قبل كان التعامل يتم مع الأقباط باعتبارهم كتلة صماء تعبر عنها الكنيسة والكنيسة تختزل فى قداسة البابا وفى الديمقراطية القيمة للفرد وليست للكتل الصماء.. وحين شعر الفرد أن صوته له قيمة ووزن خرج ليعبر ويدلى برأيه، والمعنى أن الأقباط خرجوا من حضن وطوع الكنيسة إلى رحاب المواطنة والدولة المدنية.
فى عام 2005 رمى د. أحمد نظيف، رئيس الوزراء الأسبق، المصريين بأنهم غير مستعدين للديمقراطية واستعمل تعبيرا مؤلما، إذ قال إنهم ينقصهم التربية السياسية، وفى الفترة الأخيرة ارتفعت أصوات مشابهة مثل القول إن نسبة الأمية مرتفعة وإن الوعى منخفض وإن هناك من يمكن أن يضلل الناخبين «المصريين»، ومن أسف أن من قالوا ذلك أناس نالوا درجات علمية رفيعة «أكاديميا»، ونسى الجميع أن نسبة الأمية بين المصريين سنة 1924 كانت تتجاوز 95 %، ومع ذلك فإن رئيس الوزراء الذى أجرى الانتخابات لم يفز فيها، وفاز سعد زغلول، زعيم الأمة، لكن التذرع بالأمية الآن يعنى عدم الوثوق بالانتخابات أصلا وعدم الرغبة فى إجرائها، ليس فقط الآن، بل على مدى عشرين عاما على الأقل، لأن مشكلة الأمية لن تحل بين يوم وليلة، بل إننا نحتاج إلى عمل جاد يشمل بناء آلاف المدارس وتحسين الخدمة التعليمية لنمنع التسرب من التعليم باعتباره المصدر الأعظم للأمية بين الأجيال الجديدة.
أعرف أن هناك من لا يثق بالعوام والجماهير، وأحيانا يزدريهم، أرسطو كان واحدا من هؤلاء، المؤرخ العظيم عبدالرحمن الجبرتى كان كذلك، فهو يتحدث عن العوام باعتبارهم «حشرات» فقد وصف أهالى الحسينية فى ثورة القاهرة الثانية بأنهم «حشرات الحسينية»، وبعد ثورة 19 كان هناك بين خصوم سعد زغلول من يتحدث عنه باعتباره «زعيم الرعاع»، وكان خصوم عرابى يسخرون منه بالقول إنه «زعيم الفلاحين»، وهذا ما دفع عبدالرحمن الشرقاوى إلى أن يجعل هذه العبارة عنوانا لمسرحيته عن أحمد عرابى.
المرحلة الأولى من التصويت عنوان دال للمرحلتين التاليتين، وفتحت الأفق أمام تجربة انتخابية وديمقراطية تستحق أن نتوقف أمامها وأن نتأملها طويلا، وسوف يبقى هذا الشعب يعلم الجميع وفى الوقت المناسب يعلن عن نفسه وعن مخزونه الثقافى والإنسانى الممتد.. كثيرون جزموا بأن الانتخابات لن تقام ولن تجرى، لكن الناخب المصرى قرر إتمامها، ليثبت خطأ كثير من التحليلات والتوقعات، ويثبت كذلك أنه يعبر عن روح ثورة يناير بشعاراتها النبيلة.. سلمية.. مدنية.. حرية.. عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة