توالت فى الأسابيع الأخيرة قبل بدء المرحلة الأولى من انتخابات مجلس الشعب فى تسع محافظات، من بينها القاهرة، والإسكندرية، تقارير وتحليلات عديدة صادرة عن جهات مسؤولة، توقعت وحذرت من أن يكون «العنف» هو عنوان الانتخابات، واستندت فى مخاوفها إلى حالة الاحتقان السياسى والاجتماعى والطائفى، وغياب الأمن نتيجة للإضراب غير المعلن للشرطة والتقاعس عن تطبيق القانون فى مواجهة الجرائم التى ترتكب تحت ستار العنف الطائفى أو اللجوء إلى قطع الطرق والسكك الحديدية من جانب بعض الفئات المحتجة على سوء أوضاعها أو عنف وقمع الشرطة، وانتشار السلاح فى أيدى المواطنين بصورة سرطانية بما فى ذلك المدافع الآلية والأسلحة الثقيلة.
ولحسن الحظ لم تتحقق هذه المخاوف ومرت المرحلة الأولى يومى الاثنين والثلاثاء- 28 و29 نوفمبر- بسلام ويسر ودون أى حوادث عنف تذكر، ولا يقلل من هذه الحقيقة اقتحام البلطجية لخمس لجان بالقاهرة، وفرضهم حصاراً على 25 من القضاة المشرفين على الانتخابات أو ورود 1000 شكوى لنادى القضاة، فالشكاوى جميعاً تناولت أخطاء إدارية وتنظيمية مثل ورود أوراق التصويت غير مختومة أو عدم وصول بطاقات الاقتراع فى الموعد المحدد أو تأخر وصول رؤوساء للجان «القضاة» أو تغيير أرقام بعض المرشحين دون إعلامهم بذلك أو ممارسة بعض المرشحين للدعاية الانتخابية أمام لجان التصويت.. فكلها ظواهر محدودة ناتجة عن أخطاء إدارية وتنظيمية تتحمل مسؤوليتها «اللجنة العليا للانتخابات» ووزارة الداخلية، وكلاهما ضحايا لانهيار الدولة المصرية فى السنوات الأخيرة والنقص الفادح فى صلاحيات اللجنة العليا للانتخابات طبقاً لقانونى مباشرة الحقوق السياسية وانتخابات مجلس الشعب، ولم تتجاوز منظمة العفو الدولية الحقيقة عندما قالت فى أول تقرير لها عن الانتخابات إنها «لم ترصد أى انتهاكات لحقوق الناخبين أو أى أعمال عنف».
ومرور المرحلة الأولى لانتخابات مجلس الشعب فى أمن وسلام ودون عنف، ألا يعنى كما روج البعض أن التقارير التى تخوفت من انفجار العنف وكانت مصطنعة وتهدف إلى تخويف الناخبين وإفشال عملية التحول للديمقراطية، ولكن تكاتفت مجموعة من العوامل أدت إلى نجاح الخطوة الأولى فى طريق التحول من الاستبداد إلى الديمقراطية.
لقد فاجأ الشعب المصرى نفسه والعالم بهذا الإقبال غير المسبوق على التصويت فى انتخابات عامة منذ بدء الحياة البرلمانية الحديثة فى مصر بعد دستور 1923، وتشير التقارير الأولية (لم تعلن نسبة من أدلوا بأصواتهم حتى كتابة هذا الموضوع) إلى أن نسبة المصوتين تجاوزت 70% من المقيدين فى جداول الانتخابات طبقاً لبطاقات الرقم القومى.
وبعيداً عن الأرقام فالمشهد نفسه كان قاطعاً ومثيراً للفخر، ملايين المصريين من الرجال والنساء وبينهم من تجاوز السبعين والثمانين من العمر والمرضى الذين حضروا على كراس متحركة أو محمولين على أيدى الأبناء والأقارب يتدفقون من لحظة شروق الشمس إلى لجان الاقتراع، ويقفون ساعات طويلة فى طوابير منتظمة انتظاراً للحظة الوصول إلى صندوق الانتخاب، ليدلوا بأصواتهم ويشاركوا فى صناعة مستقبل بلدهم وأولادهم وأحفادهم، وهو مشهد يؤكد عمق حضارة هذا الشعب وقدرته الفائقة على التقاط اللحظة وإنجاز التغيير رغم كل المصاعب والنواقص وطول المعاناة.
العامل الثانى هو دور القوات المسلحة المصرية التى تولت تأمين عملية الانتخابات من البداية للنهاية، وتعاملت مع الناخبين بأسلوب حضارى هادئ يحترم الإنسان المصرى البسيط، ويفرض النظام بأسلوب إنسانى راقٍ بعيد عن استعراض القوة والزجر والعنف.
العامل الثالث هو مؤسسات الدولة وعدم وجود حزب حاكم «حزب الرئيس» تعمل كل المؤسسات لخدمته وتلجأ للتزوير والعنف لفرض نجاحه الساحق وتقدم الحماية لمرشحيه والبلطجية الذين يستأجرهم الحزب لفرض ارادته على الناخبين وبالتالي غياب العنف المعتاد، الذى كان يلجأ إليه رجال المال والأعمال الذين يخوضون الانتخابات كمستقلين أو بعض القوى المعارضة كجماعة الإخوان المسلمين.
تبقى ظاهرة إيجابية أخرى ساهمت فى هذا المشهد الجميل، وهى زحف نساء مصر إلى لجان الانتخابات للإدلاء بأصواتهن لا فرق فى ذلك بين المتعلمات والأميات والغنيات والفقيرات وساكنات القصور والعشوائيات، والتفسير لهذا الإقبال من وجهة نظرى أن المرأة المصرية التى لعبت دوراً أساسياً فى ثورة 25 يناير - وما تزال - ترفض تدهور أوضاعها بعد الثورة وتراجع النظرة إليها وتهديد أحزاب وقوى الإسلام السياسى بالانقضاض على حقوقها وسلب مكاسبها والعودة للتعامل معها كعورة وحبسها بين جدران المنزل! ومن ثم حرصها على أخذ الأمور بيدها ومساندة كل الأحزاب والقوى السياسية والشخصيات التى تدافع عن مصر دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
وبالطبع معركة الانتخابات والتحول الديمقراطى لم تنتهِ بعد، فهناك المرحلتان الثانية والثالثة من الانتخابات فى ديسمبر 2011 ويناير 2012 ثم هناك معركة انتخابات مجلس الشورى، ثم معركة رئاسة الجمهورية، فصياغة الدستور الجديد، كلها معارك تحتاج إلى يقظة ووحدة كل القوى الديمقراطية.