معتمدا على واقعة غير متداولة تاريخيا فى قصص حرب يونيو 1967، أقام الفنان السويسرى "أوريل أورلو" معرضا فى مركز الصورة المعاصرة بوسط البلد، بدعم من المؤسسة الثقافية السويسرية، تحت عنوان "الزمن قصيره وطويله"، الذى تستمر فعالياته حتى السادس من يناير المقبل.
قضى "أورلو" عدة شهور فى القاهرة، بحثا عن حقيقة احتجاز 14 سفينة أوروبية تجارية، فى منطقة البحيرات المرة، عقب اشتعال حرب يونيو عام 1967، ووقوع النكسة، وغلق الممر الملاحى بقناة السويس، لمدة ثمانى سنوات، حتى عام 1975، مما جعل هذه السفن ببحارتها محتجزين طوال هذه الفترة على متنها.
وتتبع "أورلو" طابع بريد كان خيطه الأول إلى القصة، واستطاع بجهد صحفى محترف، أو نحات دؤوب يبحث فى صخرته عن ملامح لتمثال، أن يقضى عدة شهور منقبا بدأب عن قصص البحارة، الذين قضوا هذه السنوات فوق المياه، وبالقرب من اليابسة المصرية، أثناء دوران رحى الصراع العربى الإسرائيلى على مقربة منهم، وعثر على مقاطع فيديو سجلت حياتهم على ظهر هذه السفن، كما عثر على طوابع بريد، والعديد من الخطابات المتبادلة، كانت نواة لمعرضه، لكنه لم يكتف بهذه العناصر فقط، بل زار قناة السويس، ووقف متأملا أمام شواطئ البحيرات المرة، حيث كانت هذه السفن.
زائر معرض أورلو، فى مركز الصورة المعاصرة، سيجد عمله فى غرفة ضمن غرف أخرى تحوى عدة أعمال فنية تتناول نفس "تيمة" البحر، بعنوان "هيدراركيه بحور متقلبة" وبمجرد دخول الزائر لمعرض أورلو، سيجده صف الخطابات المتبادلة بين البحارة وأسرهم، وكذلك الطوابع البريدية التى عثر عليها، على طاولة، بجانب جهاز "بروجيكتور" يعرض صورا للسفن التى كانت تقل البحارة، وجهاز آخر يعرض مقاطع الفيديو، التى يظهر فيها أبطال القصة، وهم يمارسون حيواتهم المختلفة، فيلهون تارة، أو يقوم بعضهم بقص شعر آخر تارة أخرى.
وحرص أورلو على وضع قصاصة من إحدى الصحف التى تناولت قصة البحارة وقتها، وتشكل هذه العناصر "الصور" ومقاطع الفيديو" وطوابع البريد، تركيبا فنيا فيما يعرف بفن "التجهيز" أو "الأنستليشن" يحاول فيه الفنان أن يوصل رسالته لزائر معرضه، وتبقى قصة الصراع العربى الإسرائيلى فى الخلفية، بعيدة عن اهتمام الفنان، وربما رغب فى حماية فنه، من أن يفسده الإيحاء السياسى، خاصة أن حياة البحارة، بطبيعتها متحررة، من أى قيود، سواء قيود السياسة، أو قيود الأرض، هم دائما غير مشدودين إلى يابسة محددة، وكذلك يطأون دائما أراضى جديدة، ولهم فى كل شاطئ قصة، أو ذكرى ما، هكذا جاءت فكرة المعرض، لتتناسب بشكل غير مباشر، مع قصة الفيلم السينمائى "The Terminal" للفنان العالمى "توم هانكس" الذى يروى قصة مواطن من دولة ما، يتم احتجازه داخل مطار أمريكى، بعدما يحدث انقلاب عسكرى فى بلده، فيصبح ممنوعا من الولوج داخل أراضى الولايات المتحدة، كما يصبح عاجزا عن العودة إلى وطنه، فيعيش داخل المطار، ويتعايش مع واقعه الجديد داخل صالة السفر، وتصبح هى غرفة نومه، ويصبح العاملون بها جيرانه، ويعيش فيها قصة حب لا تكتمل، ويأتى معرض أورلو، على نفس المنوال، حيث لم يهتم أن يتعايش مع قصة الصراع العربى الإسرائيلى، أو حتى يرصده، فهذه ليست قضيته، إنما ركز فقط على ما ترويه المادة التى بين يديه، وما تحكيه مقاطع الفيديو، فهناك مشاهد لبحارة يلهون داخل أجوال مخصصة لنقل البطاطس وتخزينها، وحرص على إرفاق كتابات نصية تعطى معلومات تشير إلى واقع هؤلاء البحار وقت أسرهم غير الرسمى، وحصارهم الطويل، وعلى الرغم من أن بعض مقاطع الفيديو ليس لها علاقة فعليا بواقعهم، مثل مقطع لبعض المظاهرات، إلا أن هذه المشاهد تبدو، كما لو كان الفنان يرغب فى أن يقول لنا كيف كان هؤلاء البحارة المنقطعون عن العالم، يتسلون، ويسلون أنفسهم، بمتابعة الأحداث فى العالم من حولهم.
الصراع العربى الإسرائيلى لا يظهر فى عمل أورلو مجسدا فى العمل، سوى فى صورة تظهر فيها ضفة القناة، ويعلوها سحابة سوداء، هكذا فقط يشير أورلو إلى ما كان يحيط بعالم البحارة المحتجزين هناك، وتبدو الصورة أحيانا لغير المنتبه كما لوكانت انفجارا بركانيا ما، أو تصاعدا لإبخرة حريق ما، وربما يرجع ذلك إلى رغبة من الفنان فى التركيز على عمله بوصفه "فنا" وليس محاولة من جانبه، لتسليط الضوء على فقرة تاريخية سقطت سهوا، من المؤرخين، فمثلما دخل بطل فيلم "The Terminal" الأرض الأمريكية فقط من أجل أن يجلب توقيع أحد العازفين الذين كان والده مغرم به، وتحمل كل هذه المشاق، من أجل هذا الأمر، وعاد إلى وطنه، الذى هدأت الانقلابات فيه، يدخل زائر عمل "أولرو" ويتفحصه، ويثبت فى رأسه فقط مشاهد البحارة، الذين قرروا الاستمتاع بسجنهم الاستثنائى، الذى امتد طوال هذه السنوات، بعيدا عن التورط فى هذا الصراع العربى الإسرائيلى.
يذكر أن أوريل أورلو هو فنان سويسرى متعدد التخصصات، فهو فنان وكاتب وفى بعض الأحيان قائم على متحف أو مجموعة فنية. وهو يعيش ويعمل بين لندن وزيوريخ، ودرس الفنون الجميلة فى كلية سانت مارتنس المركزية للفن والتصميم وكلية سليد للفن فى لندن. كما درس الفلسفة فى جامعة جنيف وحصل على درجة دكتوراه الفلسفة فى الفنون الجميلة عام 2002. وحصل على جائزة الفن السويسرى المرموقة فى آرت بازل عام 2008 و2009. ويعمل أورلو من خلال وسائط متعددة منها الفيديو والتصوير الفوتوغرافى والصوت والرسم، ليـبدع تجهيزات فى الفراغ متعددة الوسائط ووحدات تستحضر توافقاً بين البحث الأرشيفى والنظم البصرية المختلفة والصيغ الحكائية والتأمل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة