أتعجب حقاً لما أصاب المصريين من تدن أخلاقى وخروج على التقاليد والأعراف، فمصر منذ فجر التاريخ عرفت العيب والحرام وهذا ما حدا بعالم الآثار الإنجليزى جون بريستيد أن يؤلف كتابه "فجر الضمير" الذى أثبت فيه أن الأخلاق نشأت فى مصر وأن الضمير بدأ فى مصر، حيث يقول فى مقدمة كتابه: "إنه يجب على نشء الجيل الحاضر (فى الغرب) أن يقرأوا هذا الكتاب الذى يبحث فى تاريخ نشأة الأخلاق بعد بزوغ فجر الضمير فى المجتمع المصرى".
ويقول الدكتور سليم حسن، أستاذ المصريات الراحل فى مقدمته لهذا الكتاب، إنه إذا كان المؤلف يحتم على شباب العالم الغربى أن يقرأوا هذا الكتاب فإنه يكون ألزم الواجبات على كل مصرى مثقف أن يستوعب ما احتواه لأنه تاريخ نشأة الأخلاق فى بلاده التى أخذ عنها العالم كله.
وفى أول محاضرة لنا فى التاريخ الفرعونى، سألنا أستاذنا: "هل تعرفون لماذا استمرت الحضارة المصرية ثلاثة آلاف عام؟ لأنها الحضارة الوحيدة التى قامت على الأخلاق"، وتأكدت يومها أن قانون استمرار الشعوب هو حفاظها على الأخلاق والفضائل.
فالمصرى بطبعه حييى يحب الستر والاحتشام، بل حتى فى التماثيل المصرية نلاحظ الحشمة والوقار والميل إلى ستر الجسد أما فى التماثيل اليونانية والرومانية مثلا فنلاحظ التكشف والعرى.. وبما أن مصر كانت أصل حضارة العالم ومنبت نشوء الضمير والبيئة الأولى التى نمت فيها الأخلاق فقد نشأ ما يعرف بأدب الحكم والنصائح، وهو ما يعرف بالأدب التهذيبى أو أدب الحكمة والموعظة الحسنة لقدماء المصريين.. وهى غالبًا ما تكون نصائح موجهة من أب خبر الحياة وذاق حلوها ومرها يسوقها لابنه لكى يعمل بها، حتى يحقق لنفسه النجاح والفلاح فى حياته المستقبلة، أو من معلم لطلابه.
فيقول بتاح حتب لابنه: "حصل الأخلاق وارع الحق واعمل على نشر العدالة، وعامل الجميع بصدق"، "لا تغتر بما حصلت عليه من العلم فتستكبر، ولا تتجبر، ولكن اجعل الأمر شورى مع الجميع"، "إذا وجدت رجلا يتكلم وكان أكبر منك وأشد حكمة، فاصغ إليه واحن ظهرك أمامه (دليلا على الطاعة والاحترام)، "إذا وجدت رجلا فقيرا يتكلم فلا تحتقره لأنه أقل منك بل دعه وشأنه ولا تحرجه".
وكذلك نصحه بأنه إذا دعى إلى وليمة أن يأكل مما يليه ولا يأكل كثيرا وأن يغض بصره ولا يقرب النساء.. وهناك نصائح أخرى من حكماء آخرين تأمر الصغير إذا كان جالسا أن يقوم للكبير ليجلسه مكانه.
قال الحكيم آنى لابنه، إنه يجب البر بالوالدين، خصوصا الأم: "ضاعف الطعام الذى تقدمه لأمك، احتملها كما احتملت قذارتك، فهى قد حملتك طويلا تحت القلب عبئا ثقيلا، فإن ثديها ظل فى فمك ثلاث سنوات، لا تدعها تلومك وترفع أكفها إلى الله فيسمع شكواها".
ولم يخل تمثال لفرعون إلا وهو يحتضن أمه بحب.. يقول الدكتور محمد العريفى، إن موسى عليه السلام دعا على فرعون بالهلاك فأخر الله تعالى استجابة دعوته أربعين سنة لأنه كان بارًا بأمه.
أما الملك "نفر إير كارع" فكان شخصاً طيب القلب وفى نفسه شعور أصيل بحب من حوله والاعتراف بخطئه إذا أخطأ، فقد كان يفتتح ذات يوم أحد الأبنية فوكز وزيره بطريق الخطأ فاعتذر له، ولنا أن نتخيل فرعون بجلالة قدره يعتذر وهذا دليل على تواضعه.
والذى نلاحظه أن المصريين على مرّ تاريخهم استجابوا للأنبياء وآمنوا بهم، فالنبى إدريس مثلا ذكره الله فى القرآن الكريم ولم يذكر أنه عذب قومه بسبب عدم إيمانهم به، وهذا دليل على حب المصريين الفطرى للخير والحق والدين فقد احترموا الأنبياء ولم يقتلوهم كبنى إسرائيل.
وقد اشتهر المصريون بالحكمة والعقل حتى إن فلاسفة اليونان مثل أرسطو وأفلاطون وسقراط استقوا الحكمة من المصريين عندما اطلعوا عليها بعد زيارتهم لمصر.
نحن عندما نفتخر بحضارة مصر إنما نفتخر بها كحضارة أخلاقية قبل أن نفتخر بها كحضارة علمية من طب وهندسة وعلوم.
ونلاحظ أن الله عز وجل دائما يعذب الدولة الظالمة التى لديها انحلال أخلاقى حتى لو مسلمة، وينصر الدولة العادلة ذات الأخلاق حتى ولو كافرة، فقد عذب الله قوم لوط ليس بكفرهم ولكن بالفاحشة والشذوذ الذى استشرى فيهم.. ولم يعذب قوم إبراهيم عليه السلام لأنهم كانوا ذوى أخلاق.. ولعل أغلب ما سطرته لنا المثل المصرية العليا هو عين ما جاء به الإسلام فيما بعد فقد قال النبى، صلى الله عليه وسلم، "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ولم يقل إنه بعث لكى يجعل الناس يصلون ويصومون.. أعنى أن كل العبادات موظفة لكى ترتقى بسلوك المسلم، يعنى العبادات وسيلة إلى الأخلاق التى هى غاية الإسلام.
كانت هناك أخلاق موجودة بالفعل، كنجدة الملهوف والكرم والشهامة والمروءة، لكنها كانت ينقصها بعض القيم الأخلاقية الأخرى فكانت مهمة النبى، صلى الله عليه وسلم، إتمام هذه المكارم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليدرك بحسن الخلق درجات قائم الليل وصائم النهار" وقال أيضا:"إن من أحبكم إلىَّ وأدناكم منى مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا"، وإن موسى عليه السلام كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شىء استحياء منه.
أما آن لنا أن نثوب إلى رشدنا ونعود إلى قيمنا المصرية الأصيلة وإلى فجر الضمير؟
