كان المأمول من شباب القوى الليبرالية واليسارية الذين شاركوا فى تفجير ثورة الكرامة والديمقراطية أن يكونوا أول المرحبين بنتائج الصناديق الانتخابية، لكنهم فشلوا عند أول اختبار ديمقراطى باعتراضهم على الانتخابات ونتائجها وفوز التيار الإسلامى بغالبية مقاعد الجولتين الأوليين، وهو الاعتراض الذى اتخذ منحى عنيفا عبر الصدام مع قوات الجيش والشرطة أمام مجلس الوزراء ومحاولة اقتحام المبنى وكذا محاولة اقتحام مجلس الشعب وحرق المجمع العلمى، فى محاولة لإشاعة فوضى عامة تنتهى إلى إلغاء الانتخابات فى تكرار لما حدث فى الجزائر عام 1992 عقب فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية بغالبية المقاعد.
الخلاف مع الشباب الرافضين للديمقراطية ونتائج الانتخابات لا يبرر على الإطلاق البطش العنيف الذى تعرضوا له من جانب قوات الجيش والشرطة المرابطة فى المكان، وسحل بعض المتظاهرين والمتظاهرات أمام كاميرات الفضائيات والهواتف المحمولة، فالصمت على هذه الجريمة يغرى الجيش والشرطة بتكرارها مع قوى أخرى فى المستقبل.
نعود إلى أصل الحكاية وهو التحرك العصبى لبعض القوى الشبابية المعتصمة أمام مجلس الوزراء لاختلاق مشكلات تستهدف وقف المسيرة الديمقراطية ووقف الانتخابات بعد أن فوجئوا بالتقدم الكبير للإسلاميين فيها مقابل حصولهم هم على فتات منها، وهم الذين يعتبرون أنفسهم قادة الثورة ومفجريها والمضحين من أجلها، وهو ادعاء مبالغ فيه بالتأكيد، فهم مجرد جزء من كل، وما قدمه بعضهم من تضحيات لا يزيد عما قدمه آخرون انصرفوا لاستكمال طريق الثورة عبر صناديق الانتخابات.
ليس مقبولا بحال، ولا متصورا أبدا أن من ظلوا يرفعون شعارات الديمقراطية والاحتكام إلى الشعب يصبحون أول المنقلبين على الديمقراطية حين لا تأتى بهم، وليس متصورا على الإطلاق أن الشعب الذى خرج بالملايين ووقف بالساعات الطوال فى طوابير أمام لجان الانتخابات ليختار ممثليه لأول مرة بكل حرية سيقف مكتوف الأيدى تجاه من يريدون سلب إرادته وإلغاء اختياراته، والمأمول أن يعود هؤلاء الغاضبون إلى رشدهم وإلى أحضان شعبهم استعدادا لجولات انتخابية جديدة، فهذه الانتخابات ليست هى نهاية العالم، وليست آخر انتخابات تجرى فى مصر، بل إن السنوات المقبلة ستشهد المزيد من الانتخابات النيابية والمحلية والنقابية والجامعية والطلابية الخ، ويمكن لكل القوى الجديدة أن تجد فرصا أفضل فيها بعد يكون الشعب قد جرب هذا الفريق أو ذاك.
فى المقابل كشفت أحداث مجلس الوزراء أن القوة العددية ليست هى العنصر الوحيد فى العملية السياسية، فما أشبه العمل السياسى بالعمل الحربى، هناك فى العمل الحربى قد تمتلك إحدى القوى المحاربة جيشا بريا جرارا أضعاف ما يمتلكه الخصم، لكن هذا الخصم قد يمتلك أسلحة فتاكة تعوض نقص قوته العددية فيكسب المعركة فى النهاية، من هنا وجب على أهل السياسة إدراك هذه القواعد جيدا حتى لا يغتر البعض بقوته العددية ويتجاهل قوة الخصم تماما، كما أن إدراك هذه الحقيقة يدفع العقلاء إلى طريق التوافق الوطنى، وعند العجز عن التوافق تبقى الصناديق هى الطريق للحسم، وعلى الجميع تقبل نتائجها، وللحقيقة والتاريخ فقد بادرت جماعة الإخوان المسلمين عقب سقوط نظام مبارك بالدعوة إلى توافق وطنى حول مرشح للرئاسة وحول قائمة توافقية لمجلس الشعب تجنب البلاد مخاطر الانقسام السياسى وتعبر بنا المرحلة الانتقالية بأقل قدر من الخسائر، وقد أنتجت المبادرة ذلك التحالف الوطنى من أجل مصر الذى ضم فى بداياته نحو أربعين حزبا، غير أن معظم هذه الأحزاب انسحبت من التحالف ولم يبق منها سوى عشرة، بعد الخلاف على نصيب كل حزب فى القوائم الانتخابية، ومع ذلك حافظ التحالف فى صورته الأخيرة على تماسكه وخاض الانتخابات بقائمة وطنية احتلت مكان الصدارة فى الانتخابات، وكان المأمول أن تضم هذه القائمة رموزا سياسية كثيرة محترمة من خارج الأحزاب والقوى النظامية، وإذا كان من المؤكد أن بعض هذه الرموز هى التى رفضت المشاركة عبر التحالف الديمقراطى وأثرت الترشح بشكل مستقل أو عبر قوائم منافسة أخرى، فإن علينا أن نعترف أيضا أن جهدا كافيا لم يبذل لضم هذه الرموز السياسية الوطنية وكذا ضم بعض الرموز القبطية لقوائم التحالف الوطنى.
من المؤكد أن حزب الحرية والعدالة الذى تصدر الفائزين فى الجولتين الأولى والثانية مدرك تماما لتعقيدات الموقف الداخلى والخارجى، ومن المؤكد أن الحزب الذى سعى منذ البداية لبناء توافق وطنى سيكمل مسعاه لوضع هذا التوافق موضع التطبيق العملى عقب انتهاء الانتخابات وذلك عبر السعى لإشراك القوى السياسية الأخرى- سواء المشاركين فى التحالف الديمقراطى أو غير المشاركين - فى تولى المواقع القيادية العليا للدولة سواء فى رئاسة مجلس الشعب أو رئاسة لجانه النوعية، أو مجلس الوزراء أو حتى رئاسة الجمهورية الخ، فى استلهام للتجربة التونسية يجنبنا تكرار التجربة الجزائرية.
وإذا كان حزب الحرية والعدالة، مطالبا بطمأنة الخائفين واستيعاب المخالفين، فإن من الضرورى أيضا أن ترد تلك القوى الخائفة التحية بمثلها على الأقل، ولا ترفض اليد الممدودة لها، كما فعلت كثيرا من قبل، فالحريص على مصلحة وطنه وشعبه يسعى للتعاون مع الجميع من أجل هذه المصلحة حتى نعبر المرحلة الانتقالية بسلام، وبعد ذلك يمكن التنافس وفق قواعد ديمقراطية شفافة طبقا لأحدث المعايير العالمية.
إن القبول بالخيار الديمقراطى مصحوبا بالتحرك لبناء توافق وطنى سيرسل رسائل إيجابية لعموم المجتمع المحلى والدولى، كما أنه سيكون رسالة للقوى المضادة للثورة للكف عن مؤامراتها وفتنها، ولقوى البلطجة والانفلات الأمنى للكف عن نهبها وترويعها للآمنين، كما أن ذلك سيكون أعظم رسالة للمستثمرين والأسواق للتحرك بمعدلات أسرع لتعويض الفترة الماضية.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
dr lemo basha
مقال رائع
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد علي
مقال رائع
مقال رائع
عدد الردود 0
بواسطة:
على
رائعة
مقالة رائعة