لن تكون إرادة ولا سيادة فى مصر إلا لشعب مصر "هكذا قالها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وقالها أنور السادات من بعده.
إن ميدان التحرير كان قلب الثورة المصرية2011 والمكان الذى وجدت فيه الشرعية التى عبرت عن مطالب وطموحات الشعب المصرى الذى كان بلا إرادة، حتى اعتقد المصريون أنفسهم والعالم معهم أنهم أصبحوا جثة هامدة لا حول لهم ولا قوة، ولا يمكن أن يحركوا ساكنا أو يقفوا ضد التوريث والفساد المستشرى. ولكن هل سيكون ميدان التحرير بديلا للشرعية الدستورية أم يجب التحول إلى بناء دولة المؤسسات؟ وحتى يتم الوصول إلى إجابة عقلانية لابد أن نعرف كيف عبئت النخب السياسية المثقفة والمعارضة لمبارك الشعب المصرى للوقوف أمام نظامه وسحب الشرعية منه واستبدلها بشرعية الميدان؟
إن المعارضة المصرية فى عهد مبارك كانت تعتمد على فكرة إصلاح النظام، وهو أن تكون مشاركا فى المنظومة السياسية كالإخوان المسلمين وبعض الأحزاب كحزب الوفد وبعض الشخصيات العامة المستقلة كالدكتور أيمن نور ومصطفى بكرى وغيرهم، واستمرت المعارضة بهذا الشكل لمدة 20 عاما، وكانت تطرح طلبات إحاطة واستجوابات للحكومة وتعرض بعض قضايا الفساد فى البرلمان حتى مرض الجسد كله للنظام ونخر الفساد عظامه.
ولست مبالغا إذا قلت إن مبارك حول الدولة المصرية بمؤسساتها الشرعية وهيئاتها الحكومية إلى راشٍ ومرتشٍ ومنتفعين وأصحاب مصالح شخصية إلا ما رحم ربى، ابتداء من رأس المنظومة المتمثلة فى الرئيس مبارك وأفراد عائلته والحكومة والوزراء، وحتى المستويات الدنيا فى الدولة كموظف الحكومة البسيط الذى أصبحت استمراريته فى تحمل أعباء الحياة تعتمد على الرشوة والاختلاس، وأصبح هو الآخر سببا فى تعاظم هذا الفساد.
ومن هنا كان المصريون إما مواطنا فاسدا أو مواطن ساكتا على الفساد ليس مشاركا فيه ولكن متسما بالسلبية وخائفا على مصدر رزقه وعلى أولاده من بطش الشرطة المصرية ورجال مباحث أمن الدولة؟ فكيف تريد من مواطن أصبح متورطا فى الفساد ومشاركا فيه أو مواطنا سلبيا أن يصلح النظام أو يحرك ساكنا؟!
ولكن بسبب سوء الوضع الاقتصادى للدولة وانتشار البطالة، وارتفاع تكاليف المعيشة، بالإضافة لفساد الوضع السياسى، وجد الشباب أنفسهم عاطلين عن العمل، ولا يستطيعون أن يتزوجوا بسب عدم مقدراتهم أن يتحملوا هم وأسرهم نفقات زواجهم.
ومع بداية الألفية الجديدة بدأ مخطط التوريث يظهر فى الأفق شعر به الساسة والمفكرون، وصعد جمال مبارك إلى الحزب الوطنى وواصل صعوده بالحزب حتى أصبح الأمين العام المساعد وأمين لجنة السياسات به، وبدأ يلتف حوله المنتفعون من رجال الأعمال والمال فزاد من تدهور وضع الدولة، ومن هنا أعلنت المعارضة كحركة كفاية التى يرأسها جورج إسحاق، وبعض الأحزاب والساسة والمفكرين من أمثال أيمن نور والدكتور عبد الوهاب المسيرى والدكتور الغزالى حرب وقوفهم ضد ملف التوريث.
ومع عام 2010 وظهور الدكتور محمد البرادعى مطالبا بالتغير ليكمل ما فعلته المعارضة خلال العشر سنوات الأخيرة، التفت حوله التيارات السياسية كحزب الوفد وحركة كفاية وحركة شباب السادس من إبريل والإخوان المسلمين والمثقفين والمفكرين السياسيين، وظلما للتاريخ أن يكون هو أول من ألق حجرا ساكنا فى بحر عكرا، لأن البحر تحركت أمواجه وبدأ حالة المد والجز من سنوات سابقة، ولكن للأنصاف هو من جمع شتات هذه القوى السياسية وأسس الجمعية الوطنية للتغير التى أصدرت بيان البرادعى والقوى السياسية لمطالب التغيير. كما أخبر أن مبارك ونظامه عليه أن يحمل حقائبه ويرحل، وأن نزولنا إلى الشارع سوف يكون الأول والأخير، وإن لم يستجب النظام فسوف نعلن حالة العصيان المدنى العام وقال هذه ستكون نهاية النظام وهذا يعنى بداية الثورة والتغيير الحقيقى.
ومع انتصاف عام 2010 أصبح الرأى العام المصرى فى حالة غليان شديدة بعدما قتل الشاب خالد سعيد على يدى أجهزة الشرطة المصرية فثار الشباب على صفحات الإنترنت، ومن جانب آخر تم تزوير الانتخابات البرلمانية فانسحبت كافة الأحزاب من الانتخابات اعتراضا على الممارسات غير الشرعية للنظام.
إن الأنظمة السابقة كانت تستمد بشكل كليا بقائها فى الحكم من مصادر الشرعية الخارجية، وخصوصا بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001 التى أدت إلى سقوط الأنظمة من خلال التدخل الأجنبى كنظام حكومة طالبان فى أفغانستان ونظام صدام حسين العراقى الذى سخطت عليه الولايات المتحدة وقامت بإعدامه شنقا.
الرئيس السابق ونظامه عظموا خطورة فقدانهم لشرعيتهم الخارجية مع استبعاد أن تنقلب عليهم مصادر الشرعية الداخلية، لذا فكان دائما يعمل على إرضاء الولايات المتحدة وإرضاء إسرائيل وحماية الأمن القومى لها فى مقابل أن تتغاضى الولايات المتحدة عن الأوضاع الداخلية لمصر وعن الفساد وأساليب القمع والقهر التى تستخدم ضد الشعب المصرى والمعارضة.
النظام السابق استخف بالشعب المصرى الذى يعتبر هو المصدر الوحيد له وعبث بالشرعية الدستورية لوجوده، حيث كان يعمل على تزوير الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وسابقا نظام الاستفتاء الذى كان معمول به قبل تعديل الدستور عام 2005 .لذا كان الشعب والمعارضة يريدون أن يتحركوا وينقلبوا على الشرعية المزورة ولكن كيف ومتى وبمن؟
وبنهاية عام 2010 أصبح الوضع كالتالى:
1. النظام المصرى اعتقد أن الأغلبية المزورة فى البرلمان هى التى ستنفذ مخطط التوريث وستحافظ على شرعيته حتى لو أمام المجتمع الدولى وذلك لتبرير العنف والقمع الذى سيستخدم ضد من يحالون الانقلاب على شرعية نظام مبارك أو يرفضون التوريث.
2. الأحزاب المصرية والإخوان المسلمون على قلب رجل واحد بعد انسحابها من الانتخابات وقد طعنت النظام فى شرعيته لأنها إذا استمرت فى مشاركتها سيعد اعترافا بنزاهتها أمام الولايات المتحدة والمجتمع الدولى .
3. البرادعى والمفكرون السياسيون والمثقفون وأيمن نور والغزالى حرب وحسن نافعة وغيرهم على قلب رجل واحد ويؤيدهم شباب مصر ويدعون النظام المصرى أن يستجيب لمطالب التغيير أو لا بديل عن إعلان حالة العصيان المدنى.
4. القوى السياسية المتمثلة فى حركة كفاية، حزب الغد، وحركة شباب 6 أبريل، وحزب الكرامة، والجمعية الوطنية للتغيير نظمت 3 وقفات احتجاجية أمام قصر عابدين ضد التوريث اقتضاء بالثورة العرابية، حينما ذهب أحمد عرابى للخديوى توفيق لعرض مطالب الشعب، وقال له لقد "خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا أو عقار والله الذى لا إله إلا هو لن نورث ولن نستعبد بعد اليوم".
5. الشباب المصرى يشن حملة هجوم واسعة على صفحات الإنترنت ضد النظام المصرى وضد قمع الشرطة المصرية .ويقومون بالمشاركة فى المظاهرات .
6. المواطن المصرى السلبى ابتعدا قليلا عن سلبيته ويؤيد مطالب التغير حتى وأن كانت لا تخرج من جدران بيته وأن لم يتظاهر ولكنه ما زلا خائفا من بطش النظام.
7. الجيش المصرى ينتظر ويترقب وبعيدا عن المشهد الملتهب وأعلن لمبارك عندما تم تعديل الدستور عام 2005 أنه لن يكون طرفا إذا رفض الشعب المصرى سيناريو التوريث.
ومع بداية شرارة التغيير فى تونس ونجح التونسيون فى إسقاط نظام بن على هروبه خارج البلاد انتقلت شرارة التغيير لمصر وبقية الدول العربية كانت مصر مستعدة بكافة قواها الثورية والفاعلين السياسيين ليكونوا فى طليعة الثورة وخطوطها الأمامية والقوى الشعبية من عامة الشعب المصرى تأييدهم ولكن فى الاتساق الخلفية لسحب الشرعية من نظام مبارك وإنهاء ملف التوريث وبداية التغيير.
ومع انتشار دعوة التظاهر يوم 25 يناير 2011 على صفحات الانترنت ليكون يوم غضب عام فى مصر عبأ النظام قواه من خلال قوات الشرطة والأمن المركزى استعدادا لؤد المظاهرات فى مهدها وكى يثبت للعالم أن مصر ليست كتونس وان النظام المصرى مازال له قبضة حديدية .
خرجت طليعة الثورة وفى خطوطها الأمامية بضعة آلاف من الشباب والفاعلين السياسيين والتيارات السياسية إلى ميدان التحرير والإسكندرية والمنصورة السويس وطنطا، استخدم المتظاهرون عبارات التنديد بالنظام وأسلوب الكر والفر واستخدمت الشرطة المصرية القوة والمطاردة عبر الشوارع والاعتقالات الموسعة وقام النظام بقطع الاتصالات والانترنت فى أماكن التظاهر مع تضليل الرأى العام وتجاهل واستنكار من النظام .
ومع استمرار التظاهرات طوال يوم 25 و 26 يناير أنهكت الشرطة المصرية، ومع دخول يوم 27 وتطور الأحداث فى السويس والقاهرة من أعمال شغب وعنف فكانت نقطة التحول فى الثورة المصرية، ونجاح طليعة الثورة فى تعبئة الرأى العام ودعا الشباب كلا من المسلمين والمسيحيين للخروج والتظاهر يوم 28 يناير فيما سمى جمعة الغضب.
ومع جمعة الغضب وخروج الملايين من المساجد والكنائس فى كافة أنحاء الجمهورية وبذلك دخلت الأنساق الخلفية إلى معركة التغيير وانهارت اليد الضاربة للنظام ونزل الجيش إلى الشوارع وسحب الشعب الشرعية الدستورية من نظام مبارك وتوحدت مصادر الشرعية الثورية ضده.
مع استمرار الأحداث آفاق النظام فأراد أن ينقذا شرعيته أما العالم فزج بالألف فى مصطفى محمود ولكن لم يستطيعوا لأنه كان تأييد واهن أمام الملايين من المتظاهرين فى ميدان التحرير والمحافظات المصرية .
فجاء الآن دور الجيش فعليه الان أن يفاضل بين الشرعية الدستورية المزورة التى لم تستطيع احتواء رغبات الشعب وبين شرعية ثورية من ميدان التحرير والميادين فى كل مصر تعبر عن الشعب فانحاز إلى الشرعية الثورية .
ومن هنا فان الثورة المصرية نجحت فى إسقاط النظام بسبب ما قمت به المعارضة والقوى السياسية الفاعلة منذ بدء سيناريو التوريث خلال العشر سنوات الماضية، و توحد وتفاعل بين شباب مصر و القوى السياسية والجمعية الوطنية للتغيير وحركة كفاية وحزب الغد والوفد وشباب 6 أبريل والإخوان المسلمين والمثقفين أثناء الثورة وتأييد من بقية الشعب وتحرك الجيش وانحيازه للشرعية الثورية.
ومن هنا يجب الأخذ بعين الاعتبار بالتوصيات التالية :
إن الشرعية الثورية وميدان التحرير أدت دورها على أكمل وجه خلال الثورة وكانت ممثلة للشعب المصرى تعبر عنة ولكن بعد إقامة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وتشكيل النظام فإن الشرعية الثورية لميدان التحرير يجب أن تنتهى وان تستبدل بالشرعية الدستورية لان بعض التيارات والاتجاهات تريد أن تسيطر على الميدان وتريد أن تفرض وصايتها بل وصل الأمر إلى أن البلطجة والخارجون عن القانون يستخدموا الميدان لبلبلة الرأى العام وإشاعة الفوضى.
ولكن لا مانع من التظاهر إذا كان يتم بشكل سلمى لأنه حق للجميع ولكن بالطريقة التى يخولها القانون كما يحدث فى الدول الديمقراطية ولكن بدون تعطيل المؤسسات الشرعية للدولة كمجلس الوزراء ومجلس الشعب والشورى عن أداء دورهم الدستورى أو الأضرار بها كالمجمع العلمى المصرى فى اشتباكات مجلس الوزراء فى ديسمبر 2011 .
وحتما فان المصريون سيذهبون إلى صناديق الاقتراع وسيأتى رئيس وبرلمان منتخب من الشعب من قال نعم ومن قال لا وسينسحب المجلس الأعلى للقوات المسلحة خلف الكواليس.
ولكن إذا أراد الألف من المتظاهرين أن يذهبوا إلى ميدان التحرير او قصر الرئاسة بعدة عدة شهور من بناء نظام ذات شرعية دستورية ويريدون أن يسقطوا شرعيته ويرددون "الشعب يريد إسقاط النظام"، فهذا سيؤدى إلى النيل من هيبة الدولة وإرادة الأغلبية الساحقة من الشعب، و إلى الفوضى الشاملة .ولن ينجح أى نظام فى تحقيق الإصلاح الذى يريده المصريون .
وفى النهاية، يجب علينا جميعا سواء أحزاب ليبرالية أو شباب الثورة أو متظاهرون آو إخوانا وسلفيون الالتزام بالقنوات الشرعية والدستورية ونتائج الانتخابات، وان يكون العمل السياسى فى المستقبل من خلال شرعية دولة المؤسسات ونعطى فرصة للنظام الجديد حتى نهاية الفترة الرئاسية، وان يحاسب الرئيس ونظامه بالطرق الشريعة إذا ثبت إهماله فى إدارة شئون البلاد بعد نهاية حكمة، وأن نختار مرشحا آخر لفترة رئاسية جديدة .
محمود معوض يكتب: تعسر التحول من الشرعية الثورية إلى الدستورية
الأربعاء، 21 ديسمبر 2011 10:49 ص