نظر التاريخ اليوم إلى المصريين، وهم يستعيدون فى ذاكرتهم أمام صناديق الاقتراع ما صنعه الأجداد القدماء من مجد وحضارة لمصر عبر سبعة آلاف سنة مضت، فإذا به يرى شيئا عجيبا من هذا الشعب العظيم يراه يكسر حاجز الخوف النفسى دون أن يعبأ بما أشيع عن الانفلات الأمنى، ولا عن تغييب الشرطة، كما لم يحفل بالأحاجى والألغاز التى يسوقها إليه المجلس العسكرى من حين لآخر، ولكنه خرج بكل طوائفه فى أعداد تفوق الخيال، قد جمعت بين الشباب والشيوخ والكهولة، كما جمعت بين القواعد والعجزة من النساء والرجال، لقد خرج الناخبون وهم لا يعيرون اهتماما للمارقين، ولا أشباههم، فكانوا وحدة متماسكة، كل يسع منهم الآخر بقلبه وعقله، وكانوا يقفون فى صفوف متراصة لمسافات طويلة تجمع كل الانتماءات كأنهم بنيان مرصوص، فمن بينهم اليسارى والعلمانى والليبرالى والإسلامى، فلم تكن هناك شحناء ولا بغضاء، ولم نر أحد الناخبين يشنأ الآخر، ولم يثر بعضهم حفيظة البعض فى الرأى، ولا فى العقيدة، فالكل كان يتعايش طوال النهار فى حب مصر، كل له رأيه الحر دون الجور على حقوق الآخرين، وبقى أعظم ما فى المشهد، وهو اختفاء المارقين والمشبوهين وأشباههم، وكأنهم رؤوس الشياطين سلسلهم وصفدهم المولى عز وجل فى يوم عظيم تعيشه مصر.
لذلك فإن مصر كانت خليقة، لأن ينظر إليها التاريخ لمعرفة حقيقة ما يحدث فيها الآن، بعد أن انشغل عنها عقوداً طويلة من الزمان كانت مليئة بغرائب الفساد وعجائب السلب والنهب، وهذه التوافه من الأمور خليقة بألا يكترث بها التاريخ، فهى لم تصنع مجداً ولم تحقق نجاحاً، ولكنه عاد لينظر إلى التحرير، ويرصد الحقائق منذ يوم الخامس والعشرين من يناير، فإذا به يرى ثورة عظيمة تحدث فتخفق لها القلوب، وتتفتّح لها العقول، وتضطرب لها الضمائر، وإذا بالطبقة الكادحة تشعر بحقها، وتطمح إلى هذا الحق، وتسعى إليه جادة لا وانية ولا فاترة، رافضة نهب الثروات وتوريث الدولة فأنكر عليها الرئيس المخلوع كل هذه الأفكار الطارئة، حتى وإن كانت تمثل السواد الأعظم من الشعب، ورأى أن هذه الطبقة قد طمعت فى أشياء لم تكن تطمع فيها، وتحدثت فى أشياء لم تكن تتحدث بها، وأنها تطمح إلى الحرية، ولم تكن مؤهلة لنيلها، فإذا بهذه الطبقة البسيطة تثور على حاكمها، حين رأته طاغيا باغيا ومتعاليا عليها، وحين شعرت بأنها ليست أقل منه استحقاقا للحرية وللحياة نفسها، فهى ترى أن كل إنسان خلق جسمه من تراب، وكل يصير إلى تراب، فلا تمايز للأجسام حين تولد ولا تمايز للأجسام حين تموت، وإنما تتمايز نفوسهم وقلوبهم وضمائرهم فى الحياة وبعد الموت، بما تقدم من خير، وما تتجنب من شر، وما تصنع من البر والمعروف، وما تقترف من الإثم والفواحش.
لقد أحست الطبقة الكادحة بكل هذه المشاعر المؤلمة وبأحاسيس أشد منها إيلاما، فتولد لديها دافع التظاهر السلمى والخروج إلى ميادين مصر، فإذا بهم يرون الثوار، وقد كسروا أصنام الرئاسة والمجالس التشريعية والوزارات السيادية فزالوا عنها هبل وزالوا اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وإذا بهم يرابطون فى التحرير لتكملة الثورة الثانية، ويكتمل المشهد روعة، حين فاجأ الشعب الجميع، وذهب كل مذهب فى تحديد مستقبله بيده عبر صناديق الاقتراع الذى طالما علم أنه ستبنى عليها انتخابات اللجنة التأسيسية لإعداد الدستور، والتى سيحدد من خلالها مستقبل مصر فى الفترة المقبلة، وإذا التاريخ يرصد كل هذه المواقف العظيمة فى حياة مصر والمصريين، ليضيفها فى صفحاته الناصعة إلى حضارات السنين.
رمضان محمود عبد الوهاب يكتب: مستقبل مصر فى صناديق الاقتراع
الجمعة، 02 ديسمبر 2011 12:58 م