حين نضع النار على أجسادنا لنكوى بها، وحين يكون الدم أرخص من الأرض التى نسير عليها، وحين يكون القلب حَجَراً أقسى من الحجارة أو أشد.. فلنعلم أننا أمام صنف آخر من البشر، عجباً لكل هؤلاء.. القاتل والمقتول والظاهر والمتظاهر والناحر والمنحور والمتناحر فكلٌ أحرص على قتل الآخر أو أحرص على استمرار الصراع إلى ما لانهاية، كأننا لم نتعلم كيفية إدارة الأزمات وكيفية التعامل مع بعضنا البعض، فالكل يصم آذانه فلا يسمع إلا ما يقول ولا يرى إلا ما يريد ولا يقتنع إلا بنفسه وضاقت الدنيا فلم تسع غيره.
أمام تلك الحالة العجيبة هل نستطيع أن نقول أننا بعد أن نزعنا القلوب من الصدور، نزعنا أيضاً العقول فلم نعد نفكر قبل الفعل ولم نعد نفكر فى رد الفعل ؟
هل نشترى عقلاً لمصر التى تكوى بنا بعد أن غرسنا فى قلبها كل أسلحة الحرب وفنونه وأشكاله وألوانه بين حجارة متعددة الأنواع والأهداف وقنابل مسيلة للدموع والدم وكل الأسلحة البيضاء والسوداء، ونشرنا كل الأحقاد العفنة ونزعنا صمام الأمان والرحمة عن الصدور لننشر الغل والحقد فى النفوس، فتسير النار فى الهشيم ونتقاذف كرة اللهب التى لا تريد أن تنطفئ أبدا، تجرى بنا فى ساحات الوغى فى كل مكان يحرق قلب الوطن، لا فرق إلا فى أسماء الشوارع وأسماء الضحايا فمن التحرير للسويس للإسكندرية للإسماعيلية للمنصورة ومن محمد محمود لشارع القصر العينى لمجلس الوزراء لا فرق بين هذا وذاك، والخوف من الغد أكثر فمن ستضاف من المدن ومن سيضاف من الشوارع ومن الأسماء الجديدة التى ستنتقل لدار الخلد، ويغلفها الصمت، كلها أجساد لاقت وجه ربها وكلها دماء تروى أرض مصر وخضبت وجهها، والعجب أن الكل مصريون والعجب الأكبر أننا نقيم الآن حواجز سلكية لنفصل بين بعضنا البعض ونقيم جدارا عازلا بعد أن بنينا جدرانا عازلة داخل النفوس والصدور وجدرانا أشد فى القلوب وجدرانا أعزل فى العقول، فتقاسمنا الوطن وتوارثناه وأورثناه وجعلناه تركتنا دون غيرنا وحقاً لنا وحدنا، نموت دونه أو يموت الوطن جميعه.
فأى نوع من العقول تلك التى تدرك أن ساحات الحرب والوغى لا تورث إلا جثثا وضحايا ولا تروى إلا بالدم، وأى عقول تحكمنا حين يغيب العقل فلا يرى موطئ قدمه ولا يحسب نتيجة فعله ويتناسى رد الفعل، وأى عقل أن يكون رأيى أهم من روح غيرى، ودمه أرخص من لحظة أفكر فيها، ماذا لو كنت مكانه؟ فهل استكثرنا على أنفسنا تلك اللحظة قبل أن يضيع سراج العقل ونور القلب، فنقى أنفسنا وغيرنا شرر النفس واللهب؟
لا أدرى.. هل كنا بحاجة لثورات للنفوس على آفات النفوس قبل ثورة الحرية لنا وللوطن،؟
حين يغيب العقل وتشتد غلظة القلب لا تستطيع أن تستنشق أى هواء، لا تفرق بين هواء القمع ونسمات الحرية، فالمآل واحد، أنك تختنق ويختنق معك الوطن.. كل الوطن.
لا طعم لحرية دون وعى، ولا قيمة لعقل لا يفكر، ولا حاجة لقلوب غليظة لا ترحم بعضها البعض، ولا أمل فى الغد المشرق المأمول إن لم نصنع غدنا بعقولنا وقلوبنا، ولا حاجة لمصر بنا ولا بثورتنا إن لم نثور الآن على أنفسنا وأحقادنا وشرورنا وندرك أنها تحتاج منا الآن قبل أى وقت آخر أن تضع الحرب أوزارها وآثامها، وأن نحفظ لها كل نقطة دم طاهرة وكل حبة عرق ساهرة، لتبقى بنت المعز القاهرة.
د. هانى أبو الفتوح يكتب: من يشترى عقلاً لمصر؟
الإثنين، 19 ديسمبر 2011 11:35 ص