معصوم مرزوق

الغيبوبة!

السبت، 17 ديسمبر 2011 04:38 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كان لابد أن أنصت إليه، فهو لم يسمح لأحد أن يفتح فمه، اكتفيت بمتابعة عضلات وجهه التى تتشدد وترتخى، ورذاذ لعابه المتناثر، وحدقتيه المشتعلتين، وذراعيه اللذين واصلا التلويح والتشويح، وسبابته المنذرة المهددة. لا أذكر كم من الوقت مضى، ولكننى أذكر أن بعض المتزاحمين حوله بدأوا فى الانصراف تدريجياً، حتى أصبحت وحدى معه، إلا أن ذلك لم يخفف من حدة كلماته، أو يقلل من تدفقها، كان ينتقد المجلس العسكرى والإخوان والناصريين والوفديين، ووزارة الداخلية، وشباب الثورة، وحسنى مبارك، وفتحى سرور، كما أنه سب رئيسه فى العمل، ولعن زوجته وأمها واشتكى من عقوق أولاده، وتحول للسخرية من برامج الفضائيات، وأقسم أنه سوف يمتنع عن مشاهدة هذه المسخرة مرة أخرى، لأنها مضيعة للوقت.

توقف عن الكلام مرة واحدة، وقد بلغ منه الإعياء منتهاه، ثم أولانى ظهره منصرفاً دون أن يودعنى أو حتى يسألنى عن رأيى، وتابعته وهو يختفى بين الزحام، كان يسير دون أن يلتفت، وكأنه أراد فقط أن يقول ما لديه، ثم يمضى إلى حال سبيله.. تذكرت مرافعات الفلاح الفصيح الذى وقف أمام القاضى المصرى القديم صارخاً بمطالبه، لقد وجد من يستمع إليه، ثم ينصفه، وحملت البرديات استقامة مفهوم العدل فى مواجهة الظلم، ولم تكن نداءات الفلاح الفصيح ومناشداته مجرد صرخات، تذهب أدراج الرياح، لذلك تمسك بحقه وأصر على المطالبة به ضد الموظف الفاسد الذى استولى بغير حق على قطيعه، لم يستسلم ويدير ظهره ثم ينصرف.

تذكرت أيضاً حفلات «الزار» حيث يختلط ضجيج الطبول والدفوف وصرخات «الكوديه»، واهتزازات الأبدان فى تشنج بين سحابات من الأبخرة المعطرة، حتى ينهار البدن، ويرتخى العقل وتهوم الأشباح، وتندفع «الكوديه» السمينة كى تخرج العمل، أو الجان الذى سكن الأبدان النحيلة، وفى أغلب هذه الحفلات يختلط الجنس بالوهم والخرافة، ويصبح انهيار البدن، واستهلاك العقل هو لحظة الخلاص المتصورة. كيف تحولت الميادين من مرافعات الفلاح الفصيح إلى ما يشبه حلقات الزار؟ من المسؤول عن هذه الجريمة ؟

يبدو أن بعض وسائل الإعلام قد تقمصت دور «الكودية» السمينة الشرهة، وتحولت بعض البرامج الحوارية إلى نوع من ضجيج الطبول والدفوف، لتمارس الضغط على العقول حتى الإنهاك، مع بعض المشهيات من شخصيات لامعة، يتم دفعها دفعاً كى تنضم إلى حلقة الزار، وتصبح الحوارات نوعاً من طلاسم، ورموز غير مفهومة.. أن ذلك الرجل المجهول الذى وقف فى قلب الميدان، هو ثمرة هذا الأسلوب الذى أدى إلى إجهاض الحالة المتفوقة للفلاح الفصيح، ودفعها دفعاً إلى حالة من حالات غيبوبة الزار، مجرد محاولة بائسة لاستحضار العفاريت أو صرفها، دونما منهج علمى أو تحديد واضح لخارطة طريق.

لعل ذلك أو بعضه يفسر لماذا لم تتعرض أى فتاة لتحرش جنسى فى المراحل الأولى للثورة، ولماذا صلى المسلم فى حماية أخيه المسيحى وبالعكس، ولماذا سادت روح المواطنة والتجرد والمثالية، بينما وبشكل تدريجى بدأت تلك المظاهر الإيجابية فى الانسحاب من مشهد الميدان الذى احتله الباعة الجائلون، وحفنة من العاطلين تحاصر البقية الباقية من القابضين على جمر مفهوم الفلاح الفصيح..

إنه انتقال من العقل إلى الخرافة والأسطورة، من مفهوم العدل المؤسس على توافق مجتمعى لشروط العقد الاجتماعى إلى مفهوم غائم تحوطه سحابات البخور، ودقات الدفوف بحثاً عن «عدل» يتم استحضاره بواسطة «الكوديه».. وذلك فى تقديرى لا علاقة له بما يظنه البعض سيطرة للتيار الدينى، بل ربما يكون هذا التيار عما قريب أحد ضحايا هذه الغيبوبة، وأهم مظاهرها غياب الأمن سواء أمن الأفراد، أو أمن الدولة، وغياب المنهج العلمى للخروج من الأزمة الاقتصادية الطاحنة، وسيادة أفكار التسلق والنفاق، بما قد يدفع ضحية الزار فى النهاية إلى الاندفاع إلى الميدان مطالباً بديكتاتور، مثلما خرجت الجماهير أو أخرجت فى مارس 1954 كى تهتف: «تسقط الديمقراطية، تسقط الأحزاب».





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة