مثلما انتشرت فى الآونة الأخيرة عند بعض فئات الشعب المصرى مقولة الشيخ الشعرواى "الثائر الحق هو الذى يثور ليهدم الفساد ثم يهدأ ليبنى الأمجاد" انتشرت كذلك بين أوساط الثوريين مقولة نجيب محفوظ الخالدة "الثورات يخطط لها الدهاة وينفذها الشجعان ويجنى ثمارها الجبناء" وكأن شباب الثورة الذين انتفضوا ضد فساد النظام السابق وخرجوا ليعيدوا إلى مصر بهاءها وحضارتها،لم يفوتهم أن يتحصنوا بمقولات أديبنا العالمى نجيب محفوظ الذى يمر اليوم مائة عام على ميلاده، باعتباره أحد أهم وأجمل وجوه هذه الحضارة، ولهذا تساءل الشاعر الكبير سيد حجاب فى أحد حواراته: ترى ماذا لو عاش محفوظ حتى ثورة يناير، وكيف كان سيكتبها؟
ميلاد محفوظ فى سنة 1911 جعل وعيه يتفتح مع ثورة 1919، كما عاصر ثورة يوليو 1952 فكان محللاً للثورات وراصداً لها وقارئاً فذاً للإنسان المصرى والثقافة المصرية التى تغيرت عقب أحداث الثورات، بل يرى بعض النقاد أنه قدم وصفاً لكيفية قيام الثورات ولكنه لم يكن محرضاً ثورياً بالشكل الذى نلحظه مع الشعراء، ولكنه قدم مانيفستو للثورات وطبيعة من يقومون بها وله المقولة الخالدة "الثورات يخطط لها الدهاه وينفذها الشجعان ويجنى ثمارها الجبناء" وذلك لطبيعته التحليلية، التأملية التى تنصت جيداً للتاريخ وتستشرف المستقبل، ويعتبر بعض النقاد أن روايته "السمان والخريف" خير شاهد ودليل على استغلال المنافقين للثورة ومكتسباتها.
قال الدكتور حسين حمودة أستاذ الأدب العربى بجامعة القاهرة، محفوظ راودته فكرة الثورة على أكثر من مستوى فهناك كتابته عن ثورة 1919، والتى وضحت فى ثلاثيته ورصد فيها يوميات الثورة والتى انتهت باستشهاد "فهمى الابن" إلى جانب الوقفات العديدة عند تلك الثورة مثلا فى "أولاد حارتنا" وحديث الصباح والمساء".
وأضاف: هناك ثورة مأمولة توقف عندها محفوظ فى الحكاية العاشرة فى رواية الحرافيش وهى الثورة التى يندمج فيها الفرد مع المجموع والقائد والعالم الذى يحلم به الثوار، وفيها تتحقق القيم الجديدة ويسقط معنى الطغيان وتتساوى قيمة القوة وقيمة العمل ،ويصبح الحرافيش أو المهمشون هم من يصيغون مصائرهم بأنفسهم.
وهناك نصوص قصيرة لمحفوظ فى "أحلام فترة النقاهة، وأصداء السيرة الذاتية" تعرض فكرة الثورة وكأنها حلم يراوده ظل على حاله طوال مسيرته، وتكررت استعادة الحلم من وقت لآخر رغبة فى التغيير، وفى خلق عالم مغاير للعالم القائم وهذه الصياغة للثورة تجعل منها فكرة أبدية لا تتوقف، لأن العالم فى تصوره بحاجة إلى تغيير مستمر وهذا المعنى قائم فى كتابته التى ظلت تتمرد على نفسها وتتجاوز حدود ما أنجزته من قبل.
وقال الناقد والباحث د.سعيد الوكيل: قدم محفوظ وصفة لكيفية قيام الثورات، وطبيعة الشخصيات القادرة على القيام بها، فقد تجلى نموذج "الثائر الحق" فى روايات محفوظ فى شخصية "الفتوة" الذى يدافع عن قيم الحارة ويرفض الظلم فمثلا يقدم لنا شخصية "قاسم" ذات البعد الثورى فى أولاد حارتنا، ولطبيعته الروائية اتخذ موقف "الراصد" للثورات أكثر منه موقف "المتنبئ" بها، فلا نجزم القول بأنه كان محرضاً على الثورة، ولكنه كان مؤيداً لها ولشخصياتها، كما أن لديه قدرة على تحليل الاستبداد وتفكيكه وظهر ذلك فى "يوم مقتل الزعيم"، كما أنه رصد فكرة التغييب فى "ثرثرة فوق النيل" وطرح إشكالية أن يكون مفروضاً من قبل الحكام أو أن يكون اختياراً جمعياً للشعب.
وأضاف الوكيل: لا يخفى رصده لتشارك الفئات الشعبية المختلفة من الشعب فى الفعل الثورى، وهو من أهم سمات الثورات ويأتى هذا من وجهة نظر محفوظ إما عن طريق الاختيار الكامل للفرد أو العدوى التى تتخلق من الرغبة فى مساندة الآخر، أو التورط فى الثورة، كما أن وعى محفوظ بقيمة الشباب فى الثورة تجلى فى الثلاثية وتحديداً فى شخصية "فهمى" الابن فى الثلاثية.
وأكد الكاتب والناقد الشاب مصطفى رزق: على اهتمام محفوظ وإبرازه لدور الطلاب فى الثورات، فقال: إنه ليس خافياً أن محفوظ انتصر لثورة "الوفد الشعبية" وكرَه انقلاب العسكر الفئوي، وهذا ما وضح فى أعماله بداية من مقارنة ظاهرة بين موقف الحركتين من فئة الطلاب ودورهم، فالأولى عكس محفوظ فيها أنها مجدت تضحية الدم التى لم يفهم الإنجليز سواها وظهر فى "بداية ونهاية"، وفى المقابل عكس الثانية التى لم تميز بين أعدائها وأصدقائها واعتمدت على إقصائهم بشكل كامل كما وضح ذلك فى "يوم مقتل الزعيم"،كما دشن محفوظ من خلال الثلاثية لفكرة أن ثورة 19 قد جاءت نتاجاً لتعددية حزبية ديمقراطية وأن تحفظ البعض عليها ووصفها بالشكلية وأنها نابعة من القصر- كما دشن أيضا من خلال "ميرامار واللص والكلاب والكرنك" فئوية ثورة 52 والتى عملت على التغييب واقتصار مكتسباتها على فئة وعدت بالديمقراطية وعملت على قتلها.
كما أوضح الكاتب والمترجم الشاب "محمد عبد النبى" أن الحديث عن الثورة فى أعمال محفوظ يكاد ألا ينتهى، ويحتاج لبحث موسع، لأسباب عديدة، فبين صفحات أعماله الواقعية تجد ثورات بعينها، مثل 1919 وانقلاب الضباط فى 1952، كما تجد ثورات متخيلة فى أعماله الرمزية مثل الحرافيش وأولاد حارتنا. وقد نجد لديه حس الراصد المتابع، والرغبة فى الخروج بدرسٍ ما أو فكرة ما، لكننا قد لا نجد – كثيراً – الأدب المحرض على الثورة مثل الشعراء، بالنسبة لى أهم ما فى أعمال محفوظ فيما يخص الثورة هو حرصه على رؤية الإنسان، الأعزل البسيط، فى خضم الأحداث الجليلة، وأزماته سواءً مع معركة كسب القوت اليومى أو مع طموحات وأشواق الروح نحو الحرية والعدالة والمساواة. شخصياته تشبهنا، ليست أبطالاً أسطورية ولكنها تمتلئ بتناقضات النفس الإنسانية، تلك النفس التى قد تشعل الثورة وقد تنتهزها أو تأكلها كذلك.
نجيب محفوظ مائة عام من الثورة ..آمن بالشباب وبدورهم فى صنع الثورة وقال: الثورات يخطط لها الدهاة وينفذها الشجعان ويجنى ثمارها الجبناء.. وحرص فى أعماله على رؤية الإنسان البسيط وأزماته
الأحد، 11 ديسمبر 2011 06:41 م