على مدى 12 عامًا منذ تعرض أديبنا الأكبر نجيب محفوظ لمحاولة الاغتيال الآثمة في أكتوبر عام 1994 والتي أعجزت يده اليمنى حتى وفاته في أغسطس عام 2006 ظللت ألتقي به في منزله بشكل منتظم كل يوم سبت في تمام الساعة 6 مساء، لأجري الحوار الأسبوعي الذي كان ينشر كل يوم خميس بجريدة "الأهرام"، والذي طلب محفوظ من رئاسة تحرير الجريدة أن أجريه معه بدلاً من مقاله الأسبوعي الذي لم يعد قادرًا على كتابته.
وكانت علاقتي بأديبنا الأكبر والتي بدأت عند التحاقي "بالأهرام" عام 1971 معروفة في مصر وفي الخارج خاصة بعد أن شرفني باختياره لي لأكون ممثله الشخصي في احتفالات نوبل عام 1988 واختصني لألقي الخطاب الذي أعده لهذه المناسبة.
لذلك فكثيرًا ما كنت أتلقى طلبات من بعض الشخصيات العربية والأجنبية لمقابلة أديب مصر الكبير والذي أصبحت زيارته جزءًا من برنامج زيارة كبار الضيوف للقاهرة، حيث كانوا يشاهدون الأهرامات وأبا الهول ويزورون نجيب محفوظ، وكان محفوظ يرتاح لقيامي بهذه المهمة نظرًا لأنه لم يكن له سكرتارية خاصة، وقد كان أصدقاؤه يساعدونه في هذه الأمور، وأذكر في بداية الإعلان عن فوز محفوظ بجائزة نوبل حين بدأت الصحافة وأجهزة الإعلام العالمية تتوافد على مكتبه "بالأهرام" أن تطوع الناقد الأدبي فتحي العشري للقيام بهذه المهمة.
أما صبري السيد المعروف لأصدقاء نجيب محفوظ باسم الحاج صبري فكان في السنوات الأخيرة يأتي يوميًّا لمنزل الأستاذ كي يقرأ له الصحف في الصباح بعد أن أصبح ضعف بصره يحول دون قراءته لها بنفسه.
وحين بلغ الحاج صبري السن القانونية أبلغته شئون العاملين "بالأهرام" أنه سيحال للتقاعد، وقد تحدث إلى الأستاذ نجيب محفوظ في هذا الأمر الذي فاتحت فيه إدارة الجريدة طالبًا مد خدمة صبري السيد أسوة بغيره، تقديرًا لما يقوم به لأديبنا الأكبر الذي تتشرف الجريدة بانتمائه إليها والتي لم تعين له سكرتارية طوال عمله بها رغم احتياجه الشديد لذلك خاصة بعد حصوله على نوبل 1988، لكن الإدارة لم تستجب وتم إحالة الحاج صبري إلى التقاعد، لذلك فقد أوكلت إليه بعض المهام التي يقوم بها لجريدة "الأهرام إبدو" التي كنت أرأس تحريرها.
وهكذا ظل الحاج صبري يقرأ الصحف كل صباح لنجيب محفوظ ويتولى بعض مراسلاته المحلية، بينما كنت أتولى مراسلاته الدولية ومقابلاته لكبار الشخصيات، ورغم سعادتي بأن أؤدي لأديبنا الأكبر هذا العمل البسيط فقد كان لا يترك مناسبة إلا ويبدي امتنانه لي لقيامي بتلك "المهمة الثقيلة" على حد قوله، والتي لم تكن كذلك على الإطلاق، فكونها لنجيب محفوظ كان يحولها إلى متعة حقيقية، وكان أصدقاء محفوظ المقربين يعرفون أنه كثيرًا ما كان يلقبني مازحًا إنني بـ"وزير الخارجية"، فإذا قال له أحدهم إن هناك سفيرًا أو صحفيًّا أجنبيًّا يريد مقابلته قال لهم: شوفوا مع وزير الخارجية!.
على أن هذا الوضع كان يسبب لي حرجًا في بعض الأحيان، فقد قلت له ذات مرة- على سبيل المثال- إن الأمير خالد الفيصل يرغب في زيارته لاستطلاع رأيه في شأن مؤسسة للفكر العربي يريد إنشاءها، فقال لي: إبقى هاته معاك يوم السبت! قلت: لكن الأمير لن يبقى في مصر حتى يوم السبت، فقال: يعني هيقابلني مع الحرافيش؟! فقد كان محفوظ يلتقي بقية أيام الأسبوع مع أصدقائه سواء ممن كان يطلق عليهم شلة "الحرافيش" أو غيرهم في بقية أيام الأسبوع ببعض الأماكن العامة، أما يوم السبت فكان يبقى بالبيت لأنه كان اليوم المخصص للقائنا.
لقد كان جدول لقاءات محفوظ مرتبًا بدقة مثل بقية حياته فقد كان يلتقي مساء أيام الآحاد من كل أسبوع بمجموعة من الأصدقاء في فندق "شبرد" تضم الدكتور محمد الكفراوي وعلي سالم وإبراهيم عبد العزيز وغيرهم، أما جمال الغيطاني ويوسف القعيد وعبد الرحمن الأبنودي وشلتهم فقد كان يلتقي بهم مساء الثلاثاء في باخرة "فرح بوت" على نيل الجيزة، وكان يوم الجمعة مخصص للقاء الذي كان يرتبه له الدكتور يحيى الرخاوي مع مجموعات من الشباب من مريديه، أما يوم الخميس فكان للقاء الحرافيش.
وكانت لقاءات محفوظ تتراوح ما بين المقطم وفندق "سوفيتيل" بالمعادي وفندق "موفنبيك" بالمطار بالإضافة للجيزة ووسط البلد.
وهناك اعتقاد سائد بأن جميع أصدقاء محفوظ من الحرافيش، والحقيقة أن هذا غير صحيح فهو لم يكن يطلق هذا الاسم إلا على شلته القديمة التي ظل يلتقي بها حتى آخر أيامه مساء كل يوم خميس بمنزل المخرج السينمائي الكبير توفيق صالح والتي كانت تضم عددًا كبيرًا ممن رحلوا عن عالمنا ولم يبق منهم إلا توفيق صالح أمد الله في عمره، وكان من بينهم عادل كامل وأحمد زكي مخلوف ومحمد عفيفي وأحمد مظهر وأمين الذهبي.. وغيرهم، وقد عرفت شلة الحرافيش بعض الأعضاء العابرين مثل صلاح جاهين وأحمد بهاء الدين ومصطفى محمود ولويس عوض، أما أحدثهم فكان الفنان جميل شفيق.
وقد أخبرني محفوظ أن الفنان أحمد مظهر هو أول من أطلق هذه التسمية على شلتهم القديمة، وحين سألته عن معناها قال إن معناها لا يعرفه إلا من ينتمون لها فهو "الهلافيت" أو "المتشردين"، أما المجموعات الأخرى التي كان يلتقي بها بقية أيام الأسبوع فكانت كل مجموعة منها تختلف عن الأخرى وبعضهم لم يكن من الممكن أن يلتقي بالبعض الآخر لما بينهم من اختلافات تصل في بعض الأحيان إلى حد التنافر، لكن محفوظ كان حريصًا عليهم جميعًا، ولم أكن أحضر هذه اللقاءات بصفة منتظمة فقد كان لي لقائي الخاص في بيته مساء كل سبت، لكني في المرات التي كنت أذهب فيها كنت ألاحظ أن محفوظ كان يتمم دائمًا على الحضور فيقول: أمال فين جمال؟ أو: هو الكفراوي مجاش ليه؟.
والحقيقة أن العلامة الكبير الدكتور يحيى الرخاوي هو الذي دفع محفوظ للخروج يوميًّا ولقاء الأصدقاء حيث كان يخشى بعد حادث الاعتداء أن ينغلق على نفسه مما كان سيكون له تأثير ضار على حالته النفسية والصحية، خاصة وقد ضعف سمعه ووهن نظره، وكان الدكتور الرخاوي على حق، فقد ظل محفوظ حتى آخر أيامه يقظًا يتابع ما يجري من حوله، وكان يقول: إن أصدقائي هم عيني وأذني، فمن خلال الأصدقاء أرى ما يجري في البلاد وأسمع عما يحدث في العالم.
وقد حدثني ذات مرة السفير الفرنسي في القاهرة باتريك لوكليرك عن أن فرنسا قررت منح محفوظ أعلى وسام في مجال الآداب والفنون وهو برتبة "قائد" Commandeur، وقال إن هذا الوسام عادة لا يمنح إلا على أرض فرنسية فإما أن يسافر محفوظ إلى فرنسا أو أن يقلده السفير الوسام في السفارة الفرنسية بالقاهرة، وقد أخبرت السفير أن محفوظ لا يهوى السفر خارج مصر، وأنه لم يذهب إلى السويد لتسلم جائزة نوبل نفسها، وسأعرض عليه استلام الوسام في السفارة، ولكني حين عرضت الأمر على الأستاذ قال لي رده المعتاد وهو أن أحضر السفير معي يوم السبت ليسلمه الوسام في البيت(!).
وقد أخذ السفير يفكر مليًّا في الموضوع بعد أن شرحت له الوضع بأكثر الطرق دبلوماسية حتى لا يتصور أن محفوظ يقدر تكريم الحكومة الفرنسية له، ثم قال: إن نجيب محفوظ شخصية استثنائية، لذا يجب أن نعمل له الاستثناء الواجب ونسلمه الوسام في بيته.
وهكذا أحضرت معي السفير يوم السبت كما طلب محفوظ، وتمت في منزله بالعجوزة مراسم تسليم أعلى الأوسمة الفرنسية.
وفي مرة أخرى كان رئيس وزراء أسبانيا خوسيه ماريا أثنار يرغب في لقاء محفوظ أثناء زيارة رسمية له لمصر، فقلت لمحفوظ: لا تقل لي احضره معك يوم السبت! فقال محفوظ مندهشًا: أمال حيقابلني إمتى، إن مكنش يقدر ييجي معاك يوم السبت يبقى نعتذر له؟
إن قائمة من "أحضرتهم معي يوم السبت" حسب طلب الأستاذ رحمه الله تضم بعض أكبر الشخصيات العربية والعالمية، ممن كانوا يتطلعون للقائه، فمن بينهم من يعتبر واحدًا من أكبر الأدباء العالميين وهو البرازيلي باولو كويللو الذي ما إن دخل على نجيب محفوظ حتى انحنى على يده اليمنى وقبلها وهي ذات اليد التي شلتها محاولة الاغتيال الفاشلة قائلاً: عليَّ أن أقبل هذه اليد التي كتبت لنا بعض أعظم روائع الأدب الإنساني المعاصر، وكان من بينهم كاتبة جنوب أفريقيا العالمية نادين جورديمر الحائزة على جائزة نوبل والتي دعوتها بتكليف من وزير الثقافة آنذاك الفنان فاروق حسني لتكون ضيفة شرف معرض القاهرة الدولي للكتاب لما تجمعني بها من صداقة، فاشترطت لقبول الدعوة أن أرتب لها لقاء مع نجيب محفوظ.
كما كان من بين من التقوا معي بمحفوظ في منزله يوم السبت بعض أكبر الأسماء على الساحة العربية مثل الدكتور أحمد زويل والأستاذ محمد حسنين هيكل وياسر عرفات والدكتور أحمد كمال أبو المجد.. وغيرهم.
ويضم هذا الكتاب في بابه الأول نص الحوارات التي دارت بين أديبنا الأكبر نجيب محفوظ وبعض من حضروا من أكبر العقول في العالم في مختلف التخصصات من الأدباء والعلماء إلى المسئولين ورجال السياسة، والذين سعوا جميعًا لكي يكونوا.. في حضرة نجيب محفوظ.
أما الباب الثاني فيضم بعض ما كتبت عن نجيب محفوظ في أكثر من مناسبة على مدى ما يزيد عن عقدين من الزمان، وقد جمعت هنا ما نشر منها وما لم ينشر، وهي تتعرض لبعض الجوانب من حياة أديبنا الأكبر وإنتاجه الأدبي وآرائه في الثقافة والسياسة وغيرها، فتضع القارئ في حضرة نجيب محفوظ، يجالسه ويتعرف عليه بشكل مباشر.
ثم يقدم الباب الثالث مجموعة من كلمات محفوظ نفسه، وفي مقدمتها حديث مستفيض عن قصته مع القراءة والكتابة، وهو حديث ينشر لأول مرة، ثم كلمات محفوظ في افتتاح بعض المناسبات الدولية ومنها بالطبع كلمته في احتفالات نوبل عام 1988، وكلمته في افتتاح معرض فرانكفورت الدولي للكتاب والذي استضاف العالم العربي ضيف شرف دورته عام 2004، وغيرها من الكلمات التي سعى القائمون على هذه المحافل الدولية لأن يكون المشاركون فيها أيضًا في حضرة نجيب محفوظ.
وقد اعتمدت في أجزاء كثيرة من هذا الكتاب- خاصة تلك التي بها أحاديث محفوظ- على التسجيلات التي أحتفظ بها بصوته والتي تزيد على الـ500 ساعة، وإني أنتهز هذه الفرصة لأشكر قسم الاستماع بجريدة "الأهرام" الذي قام بتفريغ التسجيلات، والتي استخدمتها في الكتاب، ولولا ذلك لما تمكنت من إعدادها للنشر.