طه سيف الله
متعجلة كانت عائشة وهى تجرى حوارها الأخير مع الرجل الذى خدع العدو وأخرج الدموع من عيونه الوقحة، بينما أخذت الكلمات تندفع من جمعة الشوان متلاحقةً، كما لو أنه مطلع على الغيب عالم أنها – للأسف - آخر كلمات البطل.
وبعنف أهالى السويس الذين يعشقون الشهادة تحت بيوتها خرجت ألفاظه غاضبةً، وهو يتساءل مستنكراً كيف اختزلنا حرب السادس من أكتوبر فى الضربة الجوية الأولى للزعيم الهُمَام ناسين ما فعله بقية الرجال من المدفعية والمخابرات والمشاة والمظلات والبحرية والجبهة الداخلية حتى تتحرر الأرض ويُصان العِرض؟ ولم تجب عائشة.
ولما استفسرت الصحفية الكبيرة منه عن نصيحته لشباب قد يواجهون مثله إغراءات أولاد العم، أجاب بحتمية الصمود والولاء للأرض والطين والعِرض حاكياً بلهجته الساحلية الزاعقة كيف استدرجه وهو مراهق فى أوروبا فى ستينيات القرن الماضى رجال العدو الأشاوس وفتياته النواهد وأعطوه ما يقارب 200 ألف دولار عربون الخيانة فصمم أن يسلمها بنفسه لعبد الناصر، غير أن رجال المباحث المصرية لم يدعوه يقابل الرئيس حينئذ قبل أن يعذبوه ليلتين ويعطوه واجب الضيافة، بينما قال له الزعيم حينما قابله فى نهاية الأمر، إن هؤلاء الرجال جعلوا مصر تستحق نكستين لا نكسة واحدة، وأطرقت عائشة.
وبعد زفرة طويلة طلب الشوان من محاورته الجميلة أن تذكر الورد الذى ازهر فى حدائق الوطن بأنه زار تل أبيب 39 مرة واضعاً روحه فوق كفيه، وأنه حين تردد ذات مرة بعد انتصار أكتوبر خوفاً على حياته عنفه الرئيس السادات قائلاً " مصر لما تأمرك يا أحمد.. ضع رقبتك تحت عجلة القطار"، وأنه عندما سأله الرئيس بعد ذلك عن موعد سفره إلى إسرائيل أهو اليوم أم الغد؟ رد الشوان بأنه الأمس. وابتسمت عائشة.
ورداً على سؤال عن بعض الجواسيس الذين تجندهم إسرائيل من شباب مصر انفجر جمعة قائلاً: "كان معى 200 ألف دولار من العدو وسلمتها لمصر وغامرت بحياتى وكنت كشأن أى مصرى أفضل الموت على الخيانة. وكنت أخشى النوم فى قصور إسرائيل قدر المستطاع فربما يخرج منى فى الحلم سراً من أسرار الوطن، كيف يبيع المرء دينه وعرضه وتراب وطنه من أجل المال أو النساء أو أى شئ؟" .. ثم استدرك البطل قائلاً: "ليحمى الله مصر من مصريين يعيشون فى خيرها". وانتشت عائشة.
وكأنها تكتب ببطء كلمة النهاية لفيلم عربى جميل سألته عائشة وهى تستمتع بلحظاتها الأخيرة معه حول انطباعاته عن ثورة مصر وعن محاكمة قائد الضربة الجوية وعن مصير الوطن فتنهد الشوان قائلاً: كأنه يخاطب حوارييه فى العشاء الأخير: "أما مبارك فقد لعنه الله وجعله عبرةً لمن يعتبر.. أما الشباب الذين قاموا بالانتفاضة على عصره المظلم فأحييهم وأذكرهم بأن النصر من عند العلى القدير".
وناظراً للأفق البعيد همس البطل قائلاً: " يا عائشة، مصر أولى من الكل وفوق الجميع.. ومن يريد أن يرتقى فسوف يرتقى ولابد أن يرتقى". واستأذنته عائشة أن تجرى معه الجزء الثانى من الحوار بعد عيد الأضحى فاعتذر لها بموعد أهم. وبكت عائشة.
ابراهيم
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة