"إن المصريين ليسوا دوما شعبا مستكينا، بل هم شعب قادر على التمرد والعصيان والرفض والاحتجاج والانتفاضات والهبات"، كما تقول لطيفة محمد سالم فى تقديمها لكتاب "انتفاضات أم ثورات فى تاريخ مصر الحديث"، الصادر عن دار "الشروق" للمفكر محمد حافظ دياب، ضمن سلسلة التاريخ: الجانب الآخر.. إعادة قراءة للتاريخ المصرى، قبل أيام من اندلاع أولى شرارات ثورة الخامس والعشرين من يناير.
فى كتابه يستعرض دياب تاريخ العمل الوطنى المصرى بدءا من "الغزو الفرنسى" لمصر فى 1798 مرورا "بملحمة رشيد" وثورة عرابى، فثورة 1919 ثم انتفاضة الطلبة فى 1935 وانتفاضة العمال والطلبة فى 1946 إلى يوليو 1952 حيث كانت "الثورة المجهضة"،كما وصفها الكاتب، وحتى "هبّة الجياع" عام 1977، وتاريخ الحركات الوطنية التى ظهرت بعد عام 2005. حيث يرصد تشكيلات وثنايا الحركة الوطنية المصرية التى يتداخل فيها الشعب من فلاحين وعمال وطلبة مع الجيش أحيانا ليثبت أن الشعب المصرى إن كان يستكين ويرضى بالأمر الواقع إلا أنها تكون لفترات قصيرة يهب بعدها ليثور على هذا الظلم ويرفع الطغيان عنه.
يتحدث الكتاب عن انتفاضتى "القاهرة" الأولى والثانية وما تلاهما من انتفاضة "الصعيد" ضد حملة نابليون بونابرت على مصر، ومقاومة الشعب المصرى لهذه الحملة منذ وصولها فى أول يوليو 1798 وحتى جلائها فى 16 نوفمبر 1801، فتوضح قدرة المصريين على التجمع عند الشدائد للدفاع عن الوطن من خلال المقاومة التى أبداها الشعب المصرى فى هذه الفترة والتى كرست مفهوم "النضال الوطنى" ومهدت لوولادة قيادة شعبية مصرية داخل المجال العام، حيث تجسدا بوضوح بعد ذلك فى شخصية "عمر مكرم" الذى تولى قيادة المقاومة الشعبية وتنظيمها وشارك بنفسه فى إقامة الاستحكامات حول المدينة وتشجيع العامل وإثارة الحماس لحمل السلاح تأهبا لقتال الإنجليز عام 1807.
وكما فعل عمر مكرم فى القاهرة فعل "رشيد على بك السلانكى" فى الإسكندرية حيث عمل على تنظيم صفوف المقاومة الشعبية التى تمكنت من تحويل المدينة كلها إلى بركان ضد الانجليز الذين امتلأت الشوارع بقتلاهم، فتحقق انسحاب الإنجليز بعد شهور قليلة من محاولة الغزو بفضل انتفاضة الشعب المصرى الباسل فى وجه هذا الغزو.
وينتقل دياب ليذكر أن الغضب العارم للشعب المصرى لا يرتبط فقط بفعل الغزو، ولكنه يأتى أيضا ردا لفعل الظلم وهو ما كان فى عهد الخديو إسماعيل، حيث أنتشرت المظالم المالية والاجتماعية، مما أدى إلى بدء حركات ترفض سياساته، والتى بدأت بجمعية سرية عام 1876 عرفت باسم "مصر الفتاة"، أشرف عليها جمال الدين الأفغانى، والتى طالبت بتحسين أوضاع المصريين، خاصة فى الجيش الذى كان يسيطر عليه الأتراك، وإشاعة الحريات العامة، ثم بعد ذلك بثلاثة أعوام أجتمع الضباط المصريون مع قائدهم أحمد عرابى فى 30 يناير 1879 وطالبوا بالعدل والمساواة، واحتشدت وراءهم جماهير غفيرة من الفلاحين، بمظاهرة عسكرية قاصدين وزارة المالية، و"قد اعتبرت هذه المظاهرة أول سابقة لتدخل الجيش فى السياسة"، ليتواتر بعد ذلك انضمام الضباط للنشاط الوطنى وليعلموا "كجناح عسكرى يمكنه أن يفرض مطالبه بالعنف لو تعذرت الوسائل السياسية، وكانت تلك أول مرة يصبح فيها الجيش أداة لحماية الحركة القومية لا أداة للقمع كما كانت مهمته التقليدية فى ظل الدولة المركزية القديمة".
ويستمر العمل الوطنى للمصريين، كما يروى دياب، ليبدأ الكفاح ثانية فى 11 يوليو 1882 لمواجهة ضرب الإنجليز للإسكندرية، لتتكون "لجنة الدفاع الوطنى فى القاهرة" التى حظت بتعاطف شعبى واسع تم التعبير عنه فى أناشيد وخطب تحث على المقاومة بل وفى تبرعات جاء بعضها من نساء أسرة الخديو نفسه، إلا أنها تعرضت لحملة تشويه من جرائد موالية للخديو ووصفت عرابى ورجاله بـ"القتلة والمخربين والآثمين" فإن ذلك لم يحول دون بدء العمل السرى ضد الاحتلال البريطانى فى نشاطات تجاوزت الفلاحين والجيش وضمت أيضا الطلاب الذين نظم بعضهم نفسه فى إطار ما عرف بـ"اتحاد الشبيبة المصرية" فى نهايات 1879.
كما تعرض العمل الوطنى لكثير من الإجراءات التعسفية وتعثر نتيجة لانقسامات وقعت فى صفوفه، و ضربات وجهها له النظام جزءا لا يستهان به منها فى صورة قانون المطبوعات للتضييق على أصحاب القلم.
ولتأتى بعد ذلك هبة المثقفين للدفاع عن العمل الوطنى، وبحسب كتاب دياب فإن "ثورة 1919 تعد أول ثورة وطنية تنفجر بعد الحرب العالمية الأولى، وأول حدث جمع المصريين على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم وأجيالهم".
ويذكر دياب دور شباب مصر فى ثورة 1919 حيث كانوا من بدايات انطلاق شرارات الثورة ومن أوائل شهدائها رجال ونساء. كما يستدعى دياب الأعمال الفنية التى عبرت عن روح العمل الوطنى ورح الشعب فى ذلك الوقت، من خلال أغنيات سيد درويش ومسرحيات نجيب الريحانى وبديع خيرى.
ويروى الكتاب تتابع فصول الحركة الوطنية من خلال "انتفاضة الطلبة" عام 1934، عندما أعلن الطلاب التمرد فى وجه فساد الحياة السياسية وتزوير الانتخابات، ففى مناسبة الاحتفال بذكرى عيد الجهاد الوطنى فى 13 نوفمبر 1935 أضربت المدارس والكليات، ثم انتفاضة العمال والطلبة عام 1946، بمظاهرة بدأت فى ميدان إبراهيم باشا ثم اتسعت لتشمل المدينة ليتم بعد ذلك مجابهتها من النظام، بوصف أن المحرك الرئيسى لهذه الانتفاضة كانت القوى اليسارية.
ثم تأتى "الثورة المجهضة" فى 23 يوليو 1952، كما يطلق عليها المؤلف، والتى بدأت "انقلابا عسكريا" فـ"حركة مباركة" فثورة يدعمها الشعب، إلا أنها فشلت بعد ذلك فى القضاء على الفساد السياسى والخلل الهيكلى على المستوى الاقتصادى والاجتماعى، والفشل فى تحقيق الاستقلال، حتى جاءت "هبة الجياع"1977، التى لم تكن فقط تعبيرا عن تراجع الشأن الاجتماعى ولكن أيضا عن تراجع الحال السياسى، والتى رأى أن الآليات الأربعة الأساسية التى مهدت لها هى: "التنظيمات الطلابية" و"الانفتاح الاقتصادى" و"التعددية الحزبية" و"الطلائع الأدبية"، وهى ذاتها نفس الأسباب التى أدت إلى ثورات سابقة، كما أنها ذات الأسباب التى أدت، حسبما يدون دياب، إلى بدء تحركات جديدة فى مصر بدءا من عام 2005 مثل "كفاية" وانتشار ظاهرة المدونين وانتشار المظاهرات الفئوية التى تصاعدت فى النهاية لتصل للحظة التى لم يدركها كتاب "انتفاضات أم ثورات فى تاريخ مصر الحديثة"، وقيام ثورة الخامس والعشرون من يناير.