ما إن عدت من معرض الكتاب فى استانبول حتى تلقيت مكالمة أولى من مفكرنا الكبير السيد يسن، وهو ما إن انتهى من عبارات الود المعتادة حتى عبر عن استيائه ودهشته البالغة من الأفكار التى جاءت بالمقال المنشور الأسبوع الماضى فى هذا المكان تحت عنوان «عن القراءة».
الاستياء مصدره أن المقال لم يعط القراءة ما تستحقه، بل جعلتها فى مرتبة تالية: «فالإنسان ينبغى له ألا يقرأ إلا عندما تنضب أفكاره ويصيبها الأسن، وهو ما قد يحدث حتى لأفضل العقول». إلا أن الرجل، والحق يقال، لم ينكر قيمة القراءة أبدًا، قال: «إذا كان الإنسان راغبًا فى قراءة الجيد من الكتب، فليعن بتجنب ما هو ردىء منها، لأن الحياة قصيرة، والوقت والطاقة محدودان، ولما كان التكرار هو أم التعلم، فإن كل ما هو ذو أهمية من الكتب ينبغى أن يُقرأ قراءة كاملة مرتين على التوالى، لأنه، من ناحية، ستتضح الصلة بين أجزائه المختلفة، ويتسنى فهمها فهمًا أكمل فى القراءة الثانية»، «إلا أننى لم أثبت هذا الكلام ظنًا منى أنه مفترض، ونظرًا للمساحة من ناحية أخرى، إلا أننى الآن آعرف أسباب ما يشعر به مفكرنا الكبير من انزعاج باعتباره أحد المتبتلين الكبار فى عالم الكتب والمعرفة».
والحقيقة أنه لم يكن كلامى كله لكنه كان استعراضًا لما جاء بمقال للسيد الألمانى «شوبنهاور 1788-1860»، وأنا أضم صوتى إلى صوت مفكرنا الكبير فى التعبير عن استيائنا البالغ واستنكارنا لما جرى، ولعله من الملائم الآن آن نبادر ونلجأ إلى كتاب آخر يعيد للقراءة مجدها ويذكرنا بأخوة البشر من القراء فى كل مكان وأى زمان والذى يصفه أحد المعلقين بأنه: «حكاية الحب العظيم بين الإنسان والكتب»، أعنى كتاب: «تاريخ القراءة» الذى وضعه «البرتو مانجويل» والصادر عن دار الساقى فى ترجمة لسامى شمعون، وهو لا يزخر بالمعرفة والمتعة فقط، ولكنه يؤكد أن القراءة الصامتة التى نمارسها نحن الآن فى البيوت والمقاهى وما شابه، لابد وأن يدهشك، كما دهشت أنا غاية الدهشة، أنها كانت من الظواهر غير المألوفة والباعثة على الريبة، فلقد كانت القراءة بصوت مسموع هى القاعدة المعتمدة، باعتبار أن كل علامة من علامات الكتاب تحوى نغمًا مثل الروح.
وقد كتب القديس «أوغسطين» فى اعترافاته الشهيرة، ذاكرًا أن الأسقف «أمبروسيوس» كان قارئًا غير عادى، وذلك أنه عندما يقرأ: «كانت عيناه تغطيان الصفحة، حيث يستقبل المعانى بقلبه، وكان صوته يصمت ويبقى لسانه دون حراك، وعندما نزوره نراه يقرأ بصمت مطبق».
وحادثة هذا الأسقف الذى ضبط وهو لا يقرأ بصوت عال، هى الإشارة الأولى المذكورة فى المراجع الأدبية الغربية عن القراءة بصمت، رغم أن التاريخ كان ضبط بعضًا من حالات القراءة الصامتة فيما قبل هذه الحالة. هناك مثلاً، حسب التقرير الذى وضعه المؤرخ الذائع «بلوتارخ» إشارة إلى الإسكندر الأكبر «القرن الرابع قبل الميلاد»، وكيف أنه قرأ بصمت رسالة كانت أمه بعثت بها إليه: «مما دفع العجب فى قلوب جنوده».
ويوضح مؤلف هذا الكتاب كيف كان المديح «ينصب على الكلمة المنطوقة لأنها مثل الطائر تحلق من مكان إلى آخر، فى حين أن الكلمة المكتوبة تلتصق ميتة على الورق: «وكان على المرء أن يمنح الحرف الأصم صوتًا». أى أن النطق هو ما يفك أسر الكلمة».
أيّا كانت الكيفية التى يمتلك بها القارئ الكتاب، فالحصيلة هى أن القارئ والكتاب يصبحان وحدة واحدة: «العالم كتاب يلتهم من القارئ، الذى هو بدوره حرف فى نص العالم»، فلنبتهل إذن، العم سيد يسن وأنا، والسامعون، مع الشاعر الرائد «والت ويتمان 1819-1892»:
«لا توصدى أبوابك بوجهى، أيتها المكتبات الفخورة».