مليونية "المطلب الواحد"، هى فى حقيقة الأمر لم تكن ذات مطلب وحيد أو هوية متحدة، بل تعددت فيها المطالب والنوايا، رفعت فيها الأعلام المختلفة للإخوان والسلفيين والشيوعيين والاشتركيين وجماعة 6 إبريل، غادرتها الوحدة بعد أن تخلف عنها أحزاب الكرامة والمصريين الأحرار الذين رفضوا المشاركة فيها، ظنا منهم أنها تزيد من حالة الاحتقان فى الشارع وإحداث حالة من الفوضى وتعطيل الانتخابات.
انشقت الصفوف وانهارت الوحدة، وأصبح الدعوة لأى مليونية هذه الأيام، يغلب عليها طابع استعراض القوة والهيمنة والانفراد بالرأى، الكل يتبارى لإيصال رسالته للآخر عبر حشد أنصاره ومريديه وكأننا فى مارثون توزيع الميراث الثقيل، الذى خف وزنه بسبب كم الصراعات والخلافات التى طفت على السطح دون سابق إنذار، وباتت تهدد وحدة المصير والهدف النبيل الذى قامت من أجله الثورة، ووجد المواطن نفسه حائرا مصدوما والفهم عليه عصيا.
خريطة الانتخابات شائكة ملغومة ينبغى توخى الحذر والحيطة فى التعامل معها، وسط هذا الكم الهائل من الشعارات الحماسية والعاطفية التى يحاول كل طرف فرضها على الكتلة الصامتة التى وجدت نفسها فجأة بعد سنوات عجاف مطالبة بتحديد هويتها، واختيار ما تريده بمحض إرادتها دون ضغوط، لكن حقيقة الأمر أن الضغوط تحاصرها من كل تجاه، فإذا ما استقر يقينها على اختيار الديمقراطية والعيش بحرية وكرامة، جاء من يهمس فى أذنها بحرمانية هذه الديمقراطية، فهى رجس من عمل الشيطان، والشريعة الإسلامية منها براء، ولم تتورع التيارات الدينية بالكشف عن نواياها وبدأت تبث برامجها السياسية والانتخابية عبر الفضائيات والتجمعات الطلابية والخطب الدينية الحماسية التى تغازل العاطفة وتدغدغ المشاعر، فنحن مجتمع متدين بالفطرة، غير أن أسلوب الإرهاب فى صياغة ما تتطلبه شريعتنا الإسلامية، وطريقة التناول التى يغلب عليها طابع الترهيب والتخويف، لا الإقناع والحوار والنقاش، جعلتنا منفيين لا مشاركين، واحترام الرأى والرأى الآخر هو مجرد شعار يخلو من المصداقية والشفافية التى يتشدقون بها ليل نهار.
انقلب ميدان التحرير إلى ساحة تنظير للدعاية الانتخابية، وكانت الغلبة للتيارات الدينية التى جاءت لاستعراض قوتها وقدرتها على الهيمنة وأسر العقول والقلوب، فلم نعد نعرف أنحن فى ميدان التحرير أم فى معقل من معاقل القاعدة فى أفغانستان، وتاه المطلب الوحيد وتهنا معه فى عاصفة التحديات التى تنتظرنا، لا أحد يفهم ما يحدث وإلى أين يجرفنا التيار، فهل مازلنا نقف على أرض صلبة أم حطمتها الصراعات؟
كيف يمكن أن تجرى الانتخابات فى هذا الجو المشحون، والاحتقان الذى يهدد بانفجار قد يأتى على الأخضر واليابس، فأين هو احترام الرأى الآخر؟ وأين ذاك الحوار الذى نبتغيه لنخرج من عنق الزجاجة بأقل الخسائر؟
تشابكت الأعلام فوق المنصات المنصوبة فى الميدان، لكنها تفرقت فى أهدافها ونواياها، وكانت الرسائل الموجهة للمجلس العسكرى تشير بوضوح إلى مناصبته العداء طالما هو باق فى السلطة، وبعد أن كان "الشعب والجيش إيد واحدة "، أصبح على الجيش فض الاشتباك والعودة لثكناته وحماية حدوده، وتسليم السلطة لمن هم قادرون على قيادتها، وإن لم يكن المناخ مواتيا حتى اللحظة لمثل هذا المطلب !