سعد هجرس

شروع فى قتل أقدم دولة فى التاريخ

الأربعاء، 16 نوفمبر 2011 11:03 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
«تسونامى العنف» الذى يجتاح مصر من مشرقها إلى مغربها ومن شمالها إلى جنوبها، أخطر من أن يوضع تحت لافتة «الانفلات الأمنى» المجوجة، وأعمق من حصره فى الحدود الضيقة للحسابات الانتخابية البرلمانية الوشيكة. فهذا عنف يحمل سماتا وملامحا جديدة.
فلم تعرف مصر فى السنوات والعقود الماضية مثلا، قيام قرية بفرض «حصار» على قرية أخرى وعدم السماح بدخول أى شىء إليها سوى الاحتياجات الضرورية من السلع التموينية. ويحدث ذلك على مرأى ومسمع من قوات الأمن والشرطة العسكرية التى تقف مكتوفة الأيدى لا حول لها ولا قوة، ويزداد العجب عندما نرى فى خلفية هذا الحصار العسكرى عودة إلى الجذور القبلية والعشائرية من «هوارة» إلى «أشراف» و«عرب». ولم تعرف مصر فى السنوات والعقود الماضية مثلا، تهديداً بقطع خط السكك الحديدية والطرق الدولية والسريعة مع ما يترافق مع ذلك من اختطاف رهائن فى وضح النهار.
ولم تعرف مصر فى السنوات والعقود الماضية مثلا، أن يندلع هذا العنف فى سبع محافظات فى وقت واحد، وأن تدور رحاه فى الوجهين البحرى والقبلى سواء بسواء، وفى ذات الوقت جرى تفجير أنبوب الغاز الطبيعى المتجه إلى الأردن وإسرائيل فى سياق حملة متصاعدة لتيارات أصولية من بينها جماعة التكفير والهجرة، التى لم تعد بعضها تخفى تخطيطها لإقامة «إمارة إسلامية» على أرض الفيروز. وبالطبع.. فإنه يمكن استنتاج أن «الفراغ الأمنى» الحادث منذ 28 يناير الماضى، قد أغرى أطرافا كثيرة على «ملء» هذا الفراغ.
لكن يبدو أن «خصخصة الفضاء الأمنى» يتجاوز حكاية «البلطجية» الملتوتة، فالواضح أن النسبة الأكبر مما يطلق عليه بـ «الانفلات الأمنى» ليست النسبة «الإجرامية» المعتادة أى اللصوص وقطاع الطرق وعصابات الجريمة المنظمة أو شبه المنظمة فى الريف والحضر.
بل إن النسبة الأكبر ينخرط فيها «ناس» من خارج دائرة الجريمة، قرروا أن يأخذوا حقهم، أو ما يتصورون أنه حقهم بأيديهم، سواء من «أهالى» آخرين، أو من «الحكومة» التى مازالت بسياساتها وأشخاصها نسخة كربونية من حكومات نظام حسنى مبارك فى الأغلب الأعم، وهذا معناه أن «الأهالى» كسروا احتكار الدولة لـ«العنف» وقاموا بخصخصة هذا العنف خارج دائرة القانون وخارج نطاق الشرعية القديمة التى سقطت مع سقوط حسنى مبارك، أو فقدت أنيابها ومخالبها مع ترنح نظامه. وهذا هو أخطر ما فى الأمر، لأن المسألة لم تعد مقتصرة على إسقاط «نظام» بل تجاوزت ذلك الآن إلى بدايات «تفكيك دولة».
وبالتوازى مع الذبول – المتعمد – لـ«الرابطة الوطنية» عادت الحياة تدب فى «الانتماءات الأولية» قبلية وعشائرية ومذهبية وعرقية وخلافه. ومع عودة الروح إلى هذه الانتماءات الأولية، ما قبل الوطنية، نشطت «جرثومة التفكك» وبدأت تنخر فى الاندماج الوطنى.
ولو أن المسألة كانت – كما يتصور البعض – مقدمات لتعطيل الانتخابات البرلمانية المقبلة أو التأثير فى مسارها لصالح هذا الطرف أو ذاك، لهانت وأمكن تدارك مضاعفاتها وتوابعها بصورة أو أخرى، أو حتى أمكن تحمل تكلفتها ودفع فاتورتها. لكن «تسونامى العنف» المتسلسل والمتصاعد على النحو الذى نراه يكتسب خطورته الاستثنائية من كونه مقدمة لتفكيك الدولة المصرية. فمن هذا المنظور المخيف يجب البحث عن الخيط الرفيع جدا الذى يربط الأحداث المتفرقة التى تجرى على أرض شبه جزيرة سيناء، حيث سيناريو الانفصال – بصورة أو أخرى – لم يعد أضغاث أحلام اعتبرناها مجرد «تخاريف» فى السابق.
ومن هذا المنظور تصبح الأحداث المتفرقة التى تجرى فى أسوان مجرد المشهد الافتتاحى لحركة نوبية ساعية إلى اكتساب حق تقرير المصير، ومن هذا المنظور نفسه يصبح الظهور المسرحى لـ«هوارة» و«أشراف» و«عرب»، وقبائل وعشائر شتى مثل العبابدة والجعافرة وغيرهما، ومؤتمرات تحمل لافتات غير مألوفة من قبيل، مثل «اتقوا شر الصعيد إذا غضب»، وتلوح بإضرام حريق بطول البلاد وعرضها إذا لم يتم الاستجابة لإملاءات بعينها، وبدأت تمارس العنف بالفعل بما فى ذلك حفر الخنادق حول القرى وفرض الحصار واختطاف الرهائن وقطع خطوط الإمداد والتموين وتشكيل «محاكم أهلية»، يصبح كل ذلك شروعاً فى القتل لـ«الدولة – الأمة»، فإذا أضفنا إلى ذلك الإحياء المتعمد للنعرات الطائفية، والأبعاد التصعيدية لهذا المنحنى الطائفى، خاصة بعد أحداث ماسبيرو، تصبح الدولة وكل قيم الحداثة فى مهب الريح.
وإذا وضعنا فى الاعتبار – بعد ذلك كله – أن هناك قوى إقليمية ودولية من مصلحتها تفكيك أوصال الدولة المصرية، ولم تتوقف يوما عن تغذية وتمويل المخططات المؤدية إلى ذلك، لأدركنا أن الخطر ماثل، خاصة فى سياق محاولات إعادة رسم خرائط الجغرافيا السياسية للمنطقة بأسرها.
هذا الخطر المحدق ليس نتيجة ثورة 25 يناير كما يروج البعض، لكنه بالأحرى الثمرة المرة لسنوات وعقود من الاستبداد من جانب، وفاتورة التلكؤ عن إرساء دعائم الدولة المدنية الحديثة من جانب آخر، ولم يعد بالإمكان التسامح مع مزيد من التلكؤ أو التواطؤ مع جرثومة التفكك مهما كانت المظاهر التى تتجلى بها، دينية كانت أو مذهبية أو عرقية أو طائفية أو قبلية وعشائرية.. أو غير ذلك من انتماءات وهويات سابقة على الرابطة الوطنية.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة