يبدو أن الحكومة تعمل بالمثل الشائع السخيف فى مواجهة الانفلات الأمنى الرهيب: اصبر على جارك السوء.. إما يرحل أو تجئ مصيبة تأخذه، وبالطبع لا المصيبة جاءت ولا هو رحل، وبالتالى توسع الانفلات وتوحش عنفه ويكاد ينقلب إلى حروب أهلية خاصة. فالدولة غير الأفراد، لأنها هى التى تملك سلطة حساب السيئين من مواطنيها ولا تصبر عليهم، وإلا خربت مالطة وكل الدول المجاورة لها!
وقد خربت مالطة فعلا فى بلادنا بعد دوام حالة الانفلات الأمنى لأكثر من ثمانية أشهر، هى الأسوأ أمنيا فى تاريخ مصر الحديث.
لكن الأمر الأكثر سخافة من المثل الشائع هو البلادة التى تضرب فى قلب السلطة، فحكومتنا المؤقتة لم تحرك ساكنا، ولم يهتز شعر رأسها، ربما هى صلعاء من العقل والتمييز، والحكومة تتجاوز فى النظام المصرى القديم والذى ما زال معمولا به حتى الآن الوزارة ورئيسها إلى رئيس الجمهورية، والمجلس العسكرى الآن هو رئيس الجمهورية ومسؤوليته بالقطع تسبق مسؤولية الدكتور عصام شرف رئيس الوزراء والسيد منصور العيسوى وزير الداخلية!
ولا أعرف كيف يقبل المجلس العسكرى من الداخلية هذا الأداء الهابط فى واجباتها، مع أن وزيرها وعد المواطنين المصريين فى تصريحات مسجلة بعد توليه الوزارة بأنه سيعيد هيكلة جهاز الشرطة، ويعود إلى سابق قوته فى مدة لا تتجاوز ثلاثة شهور، فإذا بالشهور الثلاثة تمر مضاعفة والوضع يزداد سوءا على أرض الواقع ويتحسن فقط فى التقارير الرسمية والتصريحات الصحفية، على غرار التقاليد السيئة فى عهد الرئيس السابق الذى ثار عليه المصريون حتى أسقطوه.
لكن لم يصل خيال أكثر المتشائمين سوداوية إلى الظن بأن يتطور الانفلات إلى ما يشبه الحروب الأهلية فى كفر الشيخ بين أهالى مدينة بلطيم وأهالى سوق الثلاثاء بسبب خانقة تافهة بين سائق توك توك متهور وشاب، وبين عائلات قرية أبوخزام فى قنا على خلافات قديمة كانت قد أخذت تتلاشى.
وحرب بلطيم - سوق الثلاثاء أخطر من تمرد أهالى قنا قبل شهور على الحكومة وقطعهم الطرق والسكك الحديدية ومنع المصالح العامة من العمل لمدة اقتربت من أسبوع، اعتراضا على تعيين محافظ غير مرغوب فيه، لأن الخصومة بين الأهالى والحكومة لن تسيطر عليها الأهواء الشخصية والكرامة الفردية والعنطزة القبلية، ومهمات طالت أو اشتدت فلها حدود لن تتجاوزها، كما أن القانون يمكن أن يتدخل ويفرض حلا فى الوقت المناسب دون أن يتخلف عنه ثارات تبحث عمن يطاردها بلا هوادة، ولا تسقط بالتقادم، كما يحدث فى خصومات الأفراد والعائلات والقبائل!
والمصيبة هنا أو الكارثة الكبرى أن الشرطة تتعامل مع هذا النمط من الحروب بالمثل الصينى المنحرف: لا أرى لا أسمع لا أتكلم، وأحيانا يهمس بعض رجالها فى مثل هذه المواقف بمقولة فى غاية الغرابة: ياليتهم يخلصون على بعضهم ونرتاح منهم كلهم، وهى مقولة شاذة تشبه آلة جهنمية تقلب رياح العنف إلى عواصف وزلازل وبراكين تهدد كيان الدولة تهديدا مباشرا فى وجودها الفعلى، فتصبح مثل الديكور أو الصور الافتراضية التى يرسمها الكمبيوتر من خيوط وهمية، نراها فقط ولا نستطيع أن نمسكها بأيدينا!
وطبعا لا تستطيع قوات الشرطة العسكرية أن تتدخل بقوة لفض هذا النوع من الأحداث الدموية، فهى تحاول أن تتجنب دوما أن تكون طرفا فى خصومة مع مواطنيها المتصارعين، فالجيش جيش الشعب كله لا ينصر طرفا على طرف بغض النظر عن «عدالة» موقف أى منهما، فهذه سلطة القانون ولا يجوز أن يمارسها الجيش فى الشارع، والمنوط بها جهاز الشرطة، وله أدوات وإجراءات قانونية ممنوحة له، ولو تجاوزها يحاسب عليها، ولهذا يتعجب الناس أحيانا من عدم تدخل الجيش فى مثل هذه الأحداث.
والحل العاجل مطلوب لأننا لم نعد نستطيع التحمل أكثر من ذلك، أما أن يعود جهاز الشرطة قويا فعالا دون تواطؤ علينا وينال معاونة من الشرطة العسكرية أو يبحث لنا المجلس العسكرى عن بديل، وقد سبق واقترحت تأسيس قوات حرس وطنى، أو يخرج علينا المجلس العسكرى معترفا بأنه غير قادر على إدارة البلاد وتوفير الآمن للمواطنين حتى نفكر فى بدائل أخرى نحمى بها أنفسنا فى ظل غياب الدولة.. وشكرا.