6 أكتوبر 1973.. فى المساء الذى أضاءته القذائف، الفرحة المستحيلة تتطوح برؤوسنا، والخوف من الغامض الآتى يعبث كالجرذان فى صدورنا.. المساحة المائية التى قفزناها تهدر خلف ظهورنا، والظلام أمامنا طبقات كثيفة تخفى فى طياتها أسماء أخرى سوف تتوارى من بين صفوفنا، ومازالت الأسماء التى غادرتنا بعد ظهر اليوم دافئة تحت رمال سيناء وفى عقولنا وكلماتنا ودموعنا.
قبل أن ينتصف الليل اقترب منى الرقيب محمد عبدالعزيز رضوان، سألنى عن تعليمات توزيع الفصيلة وتعويض الذخيرة. أجبته بما يلزم. كاد أن يستدير عائدًا لولا أننى لاحظت أن لديه شيئًا يحتجزه خلف جفاف اللغة العسكرية، سألته، فأنكر أول الأمر، إلا أنه أمام إصرارى قال: ترى ماذا يفعل أهلنا هناك هذه اللحظة، هل سيذكرنا أحد؟
ولا أذكر إجابتى على وجه الدقة، فربما قلت له إنهم يحتفلون، وإن ما حققناه سيبقى منقوشًا فى جبين التاريخ المصرى، وربما قلت أشياء أخرى حول هذا المعنى، ولكننى لم أنس سؤاله. أخذتنا الأيام التالية الساخنة فى هديرها الذى لم يهدأ لحظة واحدة، وهى تأخذ فى كل يوم اسمًا جديدًا تضيفه لسجل الغائبين أو لسجل العاجزين، وكان رضوان إلى جوارى ونحن نرقد صامتين فى الكمائن الليلية، وأثناء زمجرة بنادقنا، وفى لحظات الدفن الثقيلة، حتى أتى مساء يوم 22 أكتوبر 1973، وكنا قد عدنا لتونا من كمين لدبابات العدو فى منطقة الشلوفة، كان يحمل بين يديه «الكانتين» «الألومنيوم» وبه وجبة ساخنة من العدس، وضعه أمامى على حافة حفرتى ثم قال لى بصوت حاول أن يكتم فيه فرحة هائلة: هل انتهت الحرب؟
كانت أصوات طلقات النصف بوصة التى ترميها دبابات العدو مازالت تصرخ من جميع الاتجاهات، فقلت لمحمد: لقد أعلنوا وقف إطلاق النار، لكننى لاأعتقد أن الحرب قد انتهت!
سألنى متحيرًا عما إذا كان يستطيع أن يعطى لأفراد الفصيلة راحة، قلت له بحدة أن يبقى كل شىء على حاله، وعندما ذكر لى أنه سمع فى المذياع أن الأمم المتحدة قد أصدرت قرارًا بوقف إطلاق النار، سقطت قذيفة خلف موقعنا تمامًا، فصرخت فيه أن يعود فورًا إلى حفرته وأن يظل متيقظًا. وأثناء الليل مررت أكثر من مرة على مواقع أفراد الفصيلة وحدثتهم عن قناعتى بأن القتال لم يتوقف، وعندما اقترب الفجر توجهت إلى حفرة محمد رضوان، كنت أشعر أن كلماتى القاسية إليه قد آلمته، أعطيته بعض التعليمات عن توزيع وانتشار أفراد الفصيلة فى الصباح، والتقطت فى إجاباته نبرة من المرارة والملل، ومن المؤكد أنه لم يكن مقتنعًا بما ذكرته له، ولعل إيمانه بقرار الأمم المتحدة كان أقوى من إيمانه بتعليماتى فى تلك اللحظة. وعند ظهيرة يوم 23 أكتوبر 1973 هاجمتنا الدبابات الإسرائيلية من جميع الاتجاهات بشراسة، ويبدو أنهم كانت لديهم معلومات أن فصيلة صاعقة تتمركز فى هذا المكان، فقد ركزوا نيرانهم رغم المقاومة الباسلة التى أبداها رجالى، وبدأت النيران فى التهام ما تبقى من الأسماء، ولن أنسى ما حييت تلك اللحظة التى رأيت فيها الدماء تتفجر من رأس محمد عبدالعزيز رضوان وقد أطاحت شظية بالجزء العلوى من فروة رأسه، ومعها خوذته الصلبة، قبل أن أواريه الرمال، تأملت طويلاً فى عينيه المتصلبتين، قرأت فيهما السؤال نفسه: هل سيذكرنا أحد؟؟؟
وسيظل هذا السؤال معى سنوات طويلة بعد ذلك، سيكون دافعى كى أكتب العديد من القصص التى فاز بعضها بالجوائز الأولى، ونشرت فى العديد من وسائل الإعلام.
6 أكتوبر 1991 قابلت أحد قدامى رفاق السلاح الذى بتر جزء من قدمه عندما اصطدم بلغم عند العبور على الشاطئ الآخر، سألنى إن كنت أعرف أحدًا يتوسط كى يتاح له الحصول على جهاز متقدم يتم تركيبه فى قدمه المبتورة، واندهشت قائلاً له إن الموضوع لا يحتاج إلى واسطة، وذكرته بأنه أحد أبطال الصاعقة وحرب أكتوبر.. فوجئت به يضحك بهستيرية وهو يقول لى ساخرًا: حرب أكتوبر غير موجودة إلا فى قصصك يا أستاذ. انكفأت على نفسى أقرأ كل ما كتبته حول الحرب وكل ما كتبه الآخرون، تذكرت محمد عبدالعزيز رضوان، وسؤاله المعذب فى لحظة النصر الكبرى «هل سيتذكرنا أحد؟»، تذكرت أيضًا أن المحاربين القدامى فى أى بلد من بلاد العالم يحتلون مواقع التكريم فى كل مكان، فحملت قلمى وكتبت السطور السابقة.