وقفت أمام بائع الكتب والجرائد أتفحص عناوين الصحف العربية كالحياة والشرق الأوسط ثم توقفت عيناى فجأة عن متابعة الأرفف والعناوين ووجدتنى أهوى على كومة صغيرة للأهرام المصرية فالتقطت نسخة منها بسرعة وضعتها على أنفى رحت أتشمم رائحة مصر عبر طياتها، وتأملت صفحتها الأولى والشوق يهز كيانى والفرحة تكاد تفقز من وجهى ورحت فى ذكريات تداعت علىّ وتسمرت أمام البائع للحظات ثم انتبهت بعد قليل فوجدت صفا من الناس خلفى فتراجعت على الفور موسعا الطريق معتذرا لخطأى ومعللا ذلك بشدة سعادتى لأنى وجدت الصحيفة التى تربيت عليها منذ أن كنت طفلا صغيرا.
تقدمت سيدة نحو بائع الصحف وفى يدها طفل لا يتجاوز الخامسة من عمره أعطت البائع يورو وطلبت منه تذكرة للمترو ثم رفع الطفل يده الصغيرة وفعل كما فعلت أمه فانحنى البائع على يديه فقبلها وأعطاه تذكرة هو الآخر، بعدما أخذ منه واحد يورو، رأيت المشهد كاملا ونظرت إلى السيدة والطفل مبتسما فبادلانى التحية بأحسن منها وعدت إلى سعادتى بالأهرام وأرجأت فرحتى بها ثم أعطيت نقودى للبائع وتركته وسرت نحو المترو أتفحص كلمات صحيفتى وأتلمس وريقاتها، وشعرت بأنها أعواد من الذهب الأبيض أو سنابل من القمح الأصفر أو أعواد من الذرة التى أشتاق إلى شوائها أو أوراق البرسيم الخضراء التى تشفى رمد العين وتصفو لرؤياها النفس العليلة.
نزلت محطة المترو فوجدت السيدة الجميلة الأنيقة الرشيقة الحشمة وطفلها الجميل الرقيق المهندم أمام ماكينة التذاكر وضعت التذكرة فى الماكينة ثم دخلت فى هدوء وتابعها طفلها مقلدا صنيعها وبكل ثقة ودون أدنى ضجيج وقفت مشدودا مشدوها محتارا متعجبا متسائلا وركبت العربة خلفهما لاحظت هى أنى أرقب طفلها وشعرت بمدى إعجابى بصنيعه فبادرتها قائلا: أنت مربية ممتازة لطفلك. فقالت: لا بل هذا أمر طبيعى ويجب أن نعلم أبناءنا جميعهم كيف يحترمون النظام والقانون حتى نصنع وطنا خاليا من الفوضى ونصنع جيلا يبنى وطنه كما يجب أن يكون ونضمن مع كل جيل يتربى على احترام القانون أن تعيش بلدنا مائة عام جديدة فى اذدهار.
عزيزى القارئ.. هذا أبدا لم يكن مشهدا تمثيليا فى مسلسل فرنسى أو أمريكى أو تركى بل حقيقة واقعية يعيشها الغرب المتحضر وتتفق عليها شعوبه جميعها، أما نحن فلا نملك إلا واقعا تملؤه الفوضى ولا يوجد به إلا التهاون، فلا قواعد مجتمعية تحترم، ولا أحكام قانون تلزم الخارجين عليها، ولا حتى احترام لأحكام دين تدعو للالتزام بقيم للحب والخير والعدل الجمال، ولا أجيال سابقة علمت الجيل الحاضر مايجب أن يكون عليه، ولا قدمت له القدوة والمثل، وسلبت من الأمل والحلم وتركته يضيع فى متاهة الدنيا غير المرتبة أو المقننة، فالكل يفعل مايشاء وكما يحلو له دون وازع أو رقيب من ضمير، فى مجتمع سقيم غيرمعافى يشغى بأمراض جمعها من كل بلاد الدنيا، حتى تآكل وتاهت معالمه وتاهت معه أهدافه وأحلامه وأدواره، وتاهت أيضا الحقوق والواجبات فى ظل سيل المطالب بحق وبدون وجه حق.
ولنأخذ مثلا واحدا من مجتمعنا السقيم ففى مدارسنا نكتب على أسوارها بخط عربى أنيق "حافظوا على نظافة مدرستكم" عنوان جميل للنظافة ودعوة طبية تعلم أبناءنا حب الوطن ولكن المصيبة هل توجد سلة للقمامة فى المدرسة كى يضع الطفل بداخلها ورقة قطعة الشيكولاتة بعدما أكلها، وإن وجدت فإنها دائما ما تكون ذاخرة بالقمامة ولا تجد من يفرغ محتوياتها، وبهذا نضع أبناءنا أمام نوع من التناقض نطالبه بما يجب أن يفعل ونحرمه من طرق تنفيذه ونضعهم أمام انفصام سلوكى وأخلاقى.
فكيف نرجو لبلدنا تقدما ونحن لسنا أهلا له وكيف نبغى جيلا قادرا سليما يحقق الحلم ونحن غير مؤهلون كى نضعه على الطريق وهو ما زال يفتقد منا القدوة والمثل الأعلى ولنتذكر كلمات تلك السيدة التى قالت "نضمن مع كل جيل يتربى على احترام القانون أن تعيش بلدنا مائة عام جديدة فى اذدهار".