إبراهيم أصلان

لا حول ولا قوة إلا بالله.. يا عبده

الجمعة، 07 أكتوبر 2011 05:37 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
سألنى صاحبى عبده، ونحن وقوف على جانب من السوق المجاورة لمقام السيدة عائشة، ألم تلاحظ أن الحمير اختفت من البلد؟
وأنا نظرت ثم تلفت حولى ولم أجد، فعلاً، حمارًا واحدًا، ثم إننى انتبهت إلى أن شهورًا طويلة مضت من دون أن تقع عيناى على مجرد واحد من هذه الحمير الضئيلة التى اعتدت أن أراها فى السنوات الأخيرة، بين مكان وآخر، وهى تجر صندوقًا من الصاج له عجلات مثل عربة، ومائل إلى جنب حتى لتخاله واقعًا لا محالة، ويحوم حول العربة زبال ناضج برفقته ولد أو اثنان يغادران المبانى بالمقاطف الممتلئة حيث يتناولها ويطوح ذراعه بها يفرغها فى فتحة الصندوق، بينما يقع بعض محتوياتها على الأرض.
هكذا رحت أتذكر وأحكى لعبده ونحن مازلنا وقوفًا على جانب السوق المجاورة لمقام السيدة عائشة، وبسبب من الاستغراق عدت بذاكرتى إلى أوقات أبعد مع هذه الحمير ضئيلة الحجم، التى كانت تجول داخل الحوارى الضيقة بإمبابة وهى تجر عربات صغيرة تحمل كومة من العنب المعطوب وأخرى من الجوافة الطرية، والتى أصاب العفن البنى جوانبها. كانت هذه العربات تتوسط الحارة، ثم يقف الحمار ثابتًا مطأطئ الرأس، بينما الفكهانى بجلبابه وطاقيته يقف إلى جانب العريش الصغير وينادى: «بلدك بعيدة يا عنب، والغربة خطفت لونك».. حينئذ ترى سعيدات الحظ من نساء الحارة وهن يتجمعن حول العربة تحمل كل واحدة غطاء حلة. على كتفها طفل، بينما آخرون يمسكون بذيل جلبابها، والرجل الذى يضع لهن فى هذا الغطاء كومة من العنب المعطوب وبضع حبات مضروبة من الجوافة، وتستدير هى عائدة بالفاكهة التى اشترتها، والصغار يهللون من حولها. أين اختفت الحمير إذن، يا عبده؟
أنا على ثقة فى أنها، بالذات، اكتسبت فى مصر أهمية نادرًا ما حظيت بها فى أى بقعة من العالم. ولا شك أيضًا أن المصريين هم أول من قدر الحمار وقدر مواهبه، بحيث إنك لن تجد أبدًا حمارًا متبطلاً أو عاطلاً عن العمل. فالحمار لدى أصحابه هو بمثابة شخص من شخوص العائلة، يؤخذ فيه العزاء إذا ما انتهى أجله.
ونحن لم نكتف بذلك، بل حققنا له مكانة مذكورة فى مناطق أخرى من العالم. ولقد حكيت قبلاً كيف أن الفلاحين المصريين الذين ذهبوا إلى العراق أوائل السبعينيات لإقامة القرية النموذجية التى أطلق عليها اسم «الخالصة»، حيث وزعت عليهم الحقول بأراضيها التى أصابتها الملوحة. والتى كنا نراها من نوافذ السيارة وهى تضوى بالبياض على جانبى الطريق كأنها مغطاة بنثار من الثلج فى عز الحر.. الحر الذى تغلب عليه الفلاحون المصريون بأن قضوا النهار فى بيوتهم وخرجوا للعمل فى الليل.
وفى ذلك الزمن كانت الحمير فى العراق مهملة ولا سعر لها ولا صاحب، والفلاح المصرى أقبل عليها يسرح بها إلى غيطه وينقل احتياجاته، ما جعل للحمار وظيفة وسعرًا وصار يباع ويشترى، أما مشكلة الملوحة فقد عالجها أحفاد الفراعنة بعمليات متلاحقة من الرى والصرف الذى هو غسيل للأرض عبر دورات زراعية متتالية للخضروات، وسرعان ما انتهت ملوحة الأرض وامتلأت الأسواق بكل صنوف الخضروات. وعندما كنا نجلس نحتسى القهوة ونتكلم أنا وصديقنا السينمائى الكبير إبراهيم الموجى مع الشاعر العراقى المغدور عبد الأمير معلة رئيس مؤسسة السينما فى إطار مشاورات لم تكتمل مع جماعة السينما الجديدة لإعداد فيلم روائى عن هذه القرية النموذجية المصرية، كان يقول، وهو غاية فى التأثر:
«والله يا أخ إبراهيم، إخوانا المصريين رخصوا علينا الخضروات، وغلوا علينا الحمير».
آه والله يا عبده.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة