دون أدنى ضجة دخل ملتمساً الدفء ، اتجه بسرعة إلى أحد الأركان ، غطى نفسه لينام ، لابد أن يستريح ليهضم وجبة الطعام التى ابتلعها منذ قليل ، تلك عادته التى جُبل عليها ، يبحث عن مأوى آمن لينام فيه بعد الأكل ، برغم أنه قضى عمره يعيش فى هذه المنطقة ، لكنه لم يتردد فى الدخول إلى هذا المكان الجديد المبنى حديثاً ، تلك طبيعته ، لا يندهش ولا يخشى الأماكن فكلها عنده سواء ، فى مثل هذه الليلة الباردة يسعى للدفء ، اطمئن لعدم وجود غرباء وهو يتحسس طريقه بدقة برغم الظلام الحالك ، انزلق برفق وضم جسده بإحكام ليذهب فى ثبات عميق متمتعاً بالدفء والأمان .
بعد شروق الشمس بقليل انتبه بغتة على ضجة ذبذبت الأرض من تحته ، أصوات صرير وزمجرة لم يعتدها من قبل ، تيقن من وجود كائنات غريبة تتحرك خارج الجدران ، خطوات سريعة تدب على الأرض بقوة ، عددهم كبير ، قطيع اقتحم عليه المكان ، رقد كامناً وقد انكمش على نفسه حتى يمروا بسلام ويدعوه فى حاله ، لكن الوقت أخذ يمر وهم يحومون حوله وأصواتهم العالية تفزعه وتفسد عليه وقت راحته ، مازال أمامه ساعات طويلة ليهضم الطعام ويخرج من حالة الخمول ويستعيد نشاطه ، أصابه التوتر من الحصار وأدرك أن تحركه من مكانه أو محاولته الخروج إلى رمال الصحراء للبحث عن مأوى بين الصخور أمر محفوف بالمخاطر .
اقتحم ضوء الشمس مكمنه مع دوى صرير الباب ، تحرك الهواء الراكد حوله فحمل إليه رائحتهم ، لم يشم هذه الرائحة من قبل ، لكنه امتلأ رعباً منها ، وجودهم مخيف ، ليسوا كبقية المخلوقات التى يعرفها ، يريد الهرب والابتعاد عنهم ، لديه يقين غريزى أنهم مؤذون بطبيعتهم ، يرفع رأسه بحذر ويخرج لسانه ليتحسس طعم الهواء عله يجد طريقاً للفرار .
- ثعبان
صرخة أطلقها أحد العمال ، فتجمد الجميع فى أماكنهم للحظات ثم تراجعوا تلقائياً خطوتين للوراء ،
- فين يا وله .
صاح أكثر من واحد بتساؤل يحمل من الإثارة والترقب أكثر مما يحمل من الفزع .
- هناك ، لابد تحت أشولة الأسمنت الفاضية.
- ابن ديك الكلب ، إزاى دخل هنا ، نهار أبوه أسود .
تجهزوا بالعصى الغليظة ورفعوا جلابيبهم و عقدوها فوق الخصور وهم يتقدمون بخطوات ترتعش من فرط الرغبة ،...
استثار ، فرفع رأسه وهو يفتح فاه وينتصب فى مواجهتهم ، أصدر فحيحه المرعب فى وجوههم وقد استعد تماماً للقتال برغم الهلع الذى تملكه ، أطلق بخة سم لكنها طاشت فى الهواء ، إنها الحيلة الوحيدة التى يمتلكها للدفاع عن نفسه ، جُن جنونه عندما لم تفلح فى إبعادهم ، فأخذ يحرك رأسه متأهباً هذه المرة للهجوم والعض .
تراجعوا خطوة وهم يطوحون برؤوسهم ليبعدوا أعينهم عن قذفة السم ، ثم أطلقوا وابلاً من السباب واللعنات وهم يتقدمون ثانية وقد بلغ بهم التحفز مداه ، دفع أحدهم عصاه وهو يمسكها من أقصى طرفها فنخسه نخسه قوية ، فهب يكاد يقف وهو يفح من الذعر ، فتلقى ضربة هائلة على منتصف جسمه ، فخر مكانه على الفور عاجزاً عن الحركة ، وقبل أن يسكن انتشلته يد من طرف ذنبه فحاول أن يلتف لكنه لم يستطع إلا أن يحرك رأسه بوهن وجسده يرتفع فى الهواء وينتفض انتفاضات عنيفة لا إرادية ، خلخلته تماماً حتى فقد القدرة على الحركة و استسلم مذهولاً لليد القوية وهى تطوح به فى عنف وتضربه بالجدار الصلب .
- لا تقتله .. لا .. قيلت بما يشبه التهليل .
- سأحضر خيط وإبرة . صاح أحدهم فرحاً .
تلوى من الألم ، أراد التملص لكن أصابعهم الخشنة التى تغلظ جلدها من مسك الفئوس والمعاول اطبقت عليه بإحكام وفمه يُشد بالخيط .
ألقوه على الأرض فاندفع من حلاوة الروح نحو ضوء الشمس المنبعث من الباب ليخرج فاراً ، فرجع بركلة إلى جانب الجدار ، رقد مستسلماً كأنه يعلن انسحابه من المعركة ليتركوه وينصرفوا حسب قانون الغاب الذى يدركه بالغريزة ، لكنه وجد نفسه محمولاً من جديد ، وهم يتقاذفوه فيما بينهم ضاحكين ويكيلون له الضربات ويفركون جلده الناعم بأصابعهم وقد تملكتهم حالة النشوة التى تولدها ممارسة السادية .
قال من يبدو أنه أحكمهم أو أكثرهم رحمة ، يكفى هذا .. أقتلوه حتى لا يتعذب ، توقفوا برهة حائرين كأنما أحزنهم أن تنتهى لعبتهم المسلية هكذا بسرعة ، لكن شيطانهم صاح ، لنضعه فى برميل الجير الحى ، أفرحتهم الفكرة ، تحمسوا لها بجنون .
نط مكتوياً بنار الجير حتى كاد يقفز عبر حافة البرميل ، فوضعوا عليه الغطاء منتشين بصوت الخبطات المتوالية وهى ترن على جدار البرميل المعبأ حتى ثلثه ، همد بعد عدة دقائق ، أعمت خلالها المادة الكاوية عينيه ، دون أن تدرك غريزته السبب الذى يدفع هذه المخلوقات الشرسة إلى تعذيبه .
كانت جثته المهترئة مكومة بجوار الباب يزحف عليها النمل و هم يعملون فى الموقع النائى بهمة و نشاط ويتبادلون الضحكات المرحة على غير عادتهم .