طرق الباب كعادته طرقة خفيفة، اقترب من مكتب رئيسه المهاب فإذا به منهمكاً فى قراءة رسالة ما على هاتفه، ارتبك قليلا هل يعود أدراجه؟ ولمح على وجهه ابتسامة بها مسحة من شجن، ويبدوا أن رئيسه قد فطن أخيرا لوجوده، فنظر له، فإذا عينيه تترقرق بها الدموع فازدادت حيرته فهو يرى شفاها باسمة وعيونا دامعة، فسأله خيراً سيدى، أهناك خطب ما؟ فأجابه – بعد أن نزلت تلك الدمعة التى بدت، وكأنها تقاوم النزول حتى لا تكسر هيبته، نزلت تقفز الحواجز التى بنتها هموم العمر على وجهه، سارت فى طرق عشوائية مخترقة شعيرات لحيته البيضاء وكأنها تجسد حاله، فهى لا تعرف متى ستتوقف ولا أين ستستقر، لا لا جائتنى رسالة من أم أولادى تخبرنى أن أحد أبنائى تذكرنى أخيرا، وقال لقد أوحشنى أبى، لطالما نسيت تلك الأحاسيس منهم رغم احتياجى لها، إنه ثمن الغربة الباهظ تدفعه من أحاسيسك ومشاعرك التى تفقدها دون شعور يوما بعد يوم، تفتقد أحاسيس الأسرة، تفتقد أحاسيس العائلة والعشيرة، تتلقى خبرا حزينا أو مفرحا عن أحد أقربائك فتتأثر، ولكن لن تستطيع فعل شىء غير الاتصال هاتفيا، ورويدا رويدا تفقد أحاسيس المشاركة، سواء فى الأفراح أو الأحزان داخل عائلتك.
وتصبح كل الأخبار عندك سواء، ولكن فقدان أحاسيس الأسرة هو الأصعب، حيث تشعر أنك مجرد حصالة يجمع فيها المال وتتوقف حدود علاقتك بأسرتك عند تلك الحالة، ولكن سيدى لماذا تستمر فى تلك الغربة رغم قسوتها؟ بنى هل رأيت يوما ذلك الحاوى عندما يقف فى أحد الميادين ممسكا بقيد غليظ وينادى فى المشاهدين حوله مستدعيا أحدهم لتقييده؟ غالبا ما يتقدم أحد العاملين معه للقيام بتلك المهمة ليستطيع هو فك القيد بسهولة ثم يجمع المال من المشاهدين، هكذا أنت والغربة، تعطيها القيد بيدك ظناً أنك تستطيع الفكاك منه بسهولة، كثيرا ما حاولت فك هذا القيد، عندما تقرر العودة والاستقرار مع أسرتك تكتشف أنك أصبحت تعيش الغربة الحقيقية معهم، فبعد كل تلك السنوات تعود فرحا بلقائهم حالما بحياة الاستقرار وإحساس الأسرة من جديد، وهم يكونون أكثر فرحا، وبعد أن يأخذوا هداياهم ومتطلباتهم تجد أنك يوما بعد يوم تستجدى الجلوس معهم.
فقد أصبحت لهم حياتهم التى تخلو من وجودك، بل ربما يجلس أحدهم فى الغرفة المجاورة يتحدث مع أصدقاء وهميين فى الشبكة العنكبوتية، ولا يفكر فى الجلوس معك، ولا لوم عليهم فإذا قضيت ثلاثين عاما فى غربتك، وخلالها كنت تزورهم شهراً فى العام فكم قضيت معهم؟ عامان ونصف فقط خلال ثلاثين عاما كاملة، فهل عايشتهم بما يكفى هل رأيتهم فى مراحل عمرهم هل شاركتهم فى كل شىء؟ عندها تتأكد أن القيد الذى أعطيته للغربة بيدك لم تستطع الفكاك منه، بل هى من أرخت لك القيد فقط، وتجدها تسحبك ثانية من حيث أتيت، فقد كانت يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام، ودون شعور منك تزيد عقدة على هذا القيد، عقدة المستوى الأفضل والمدارس الأفضل والمسكن الأفضل والسيارة الأفضل، فتحتاج إلى معجزة حتى تستطيع الفكاك من كل تلك العقد المحكمة الربط، وليست تلك العقد الوهمية لذلك الحاوى، لذلك وقدر استطاعتك لا تعطى الغربة ذلك القيد، ولا تمكنها من إحكام قيدك، ولتكن أسرتك حيث كنت، فكل شىء يهون إلا أن يقترب بك العمر من نهايته، ثم تكتشف أنك لم تكن لهم إلا مجرد حصالة.
عمرو لقوشة يكتب: عندما يصبح الأب فى غربته مجرد حصالة
الإثنين، 31 أكتوبر 2011 09:21 م
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
ام مصريه
والحل ايه
عدد الردود 0
بواسطة:
نادر الجمال
عودة الطيور المهاجرة
عدد الردود 0
بواسطة:
هشام حسني
أنها أراده الله
عدد الردود 0
بواسطة:
المسافر
كلامك حقا حقيقى
عدد الردود 0
بواسطة:
سحر الصيدلي
حقيقة مؤلمة
عدد الردود 0
بواسطة:
سعيد سالم .com
ثقافة غائبة !!
عدد الردود 0
بواسطة:
Mostafa
وكما قال مزه نمره .. ماخترتش انى اروح
عدد الردود 0
بواسطة:
مصرية مقيمة في الرياض
انت ضغط علي الجرح خليته ينزف
عدد الردود 0
بواسطة:
مصرى وافتخر
الواقع
عدد الردود 0
بواسطة:
مصرية مقيمة في الرياض
انت ضغط علي الجرح خليته ينزف