مكثت فجرا أتأمل مجريات الأحداث على الساحة العربية، وتناقشت مع أحد الأصدقاء حول أيهما أجدى فى الحرب.. الأسر أم القتل؟؟ فمال رأى صديقى نحو القتل معللا ذلك بأنه يحسم الموقف ويشفى صدور المؤمنين.. لكنى خالفته الأمر بأن الأسر له مكاسب وربحا قد يكون أقوى من القتل وعلى رأسها، أنه يمكنك من إذلال عدوك ويضعفه أمامك، ويعطى لك الفرصة فى التفاوض والحصول على حقك المسلوب رغم أنف عدوك، إضافة إلى أنه يدفع بك إلى صدارة المشهد إذا قمت بعملية الأسر ونجحت فيها وتفاوضت حولها .
فثوار ليبيا بالرغم من نجاح ثورتهم وقدرتهم على استعادة بلادهم من براثن الطاغية الهالك معمر القذافى، إلا أنهم بسبب قلة خبرتهم العسكرية وغياب حنكتهم السياسية، سيطرة حالة الفوضى والبلبلة عليهم وقت اعتقال القذافى مما ترتب عليه ظهور الصورة بأنهم يقومون بتعذيبه وهو واقع فى الأسر لديهم، إضافة أنهم قتلوه بعد أسرة وأن هذا الأمر قد يحلهم إلى المحاكم الدولية، فضلا عن إمكانية خروج بعض الدعاة يستنكرون قتله وهو فى الأسر، نحن لا ننكر طغيان القذافى وكيف دمر شعبه ولا ننكر نجاح الثورة الليبية فى الإطاحة به لكن غياب حنكة الثوار قد يقلب الطاولة عليهم .
لكن بالانتقال إلى مشهد آخر أكثر حنكة ودراية سياسية وعسكرية نرى أن فصيل فلسطينيا كحركة حماس استطاع خلال خمسة أعوام إدارة صراع عملية صفقة الأسرى وتوقيع اتفاقية تبادل بالجندى المأسور لديها جلعاد شاليط بنجاح شهد له العالم أجمع بم فى ذلك أوساطا سياسية إسرائيلية.
فعلى مدار ما يزيد من خمس سنوات نجحت حماس فى إخفاء شاليط والاحتفاظ به حيا، ولم تستطع إسرائيل بكل ما تمتلكه من جواسيس وعملاء وأجهزة استخباراتية وأجهزة تجسس متقدمة وتكونولجيا الاتصالات لديها أن تتوصل إلى مكان الجندى الصهيونى.. بل إنها عمدت إلى الحرب وفرض الحصار على قطاع غزة وتدمير البنى التحتية فى القطاع للحصول على معلومة واحدة حول جنديها إلا أنها لم تحصل على شىء.
ونجحت حماس فى التفاوض على المعلومات حول شاليط بأن قامت بتدبير صفقة تقضى بإخراج ألف أسير مقابل شريط مصور لشاليط يدل على أنه مازال على قيد الحياة، ثم نجحت مؤخرا فى عقد صفقة برعاية مصرية للإفراج عن الجندى مقابل 1027 أسيرا وأسيرة وأبهرت العالم كله بنجاح الصفقة وأرغمت إسرائيل على قبولها وإذلال العدو الصهيونى وكسر أنفه.
لكن ما أثار دهشتى وإعجابى فى الوقت ذاته أن بعد خروج شاليط من أسره يتحدث بشهادة حق حول آسريه، فقد نشرت صحيفة يديعوت أحرانوت عنه أنه تلقى معاملة حسنة ممن أسروه، بل أغرب من ذلك قوله: "إنه سيفتقد عددا من السجانين أعضاء حماس وسيفتقد طعامهم الشهى، وتفصيلا: قال شاليط: كنت أقرأ الصحف واستمع للإذاعة، وطعامهم شهى، تعلمت عن الإسلام الكثير خلال فترة سجنى وقرأت الكتب، احتفظوا بالزى العسكرى الخاص بى ورفضت لبسه وقت الإفراج عنى ولبست الزى المدنى، لم أعذب أو يتم ضربى اثناء التحقيق.. بعد يومين من الأسر أبلغونى أننا لا نقتل الأسير مهما حدث.. وكنت أشم الهواء وأرى الشمس، وعدتهم على أن لا أعود لحمل السلاح ضد الفلسطينيين"
هل يمكن أن يدرك أى عقل أن يشهد العدو لأحد بهذه الأخلاق بأن يشتهى طعامهم ويفتقد تواجده معهم ويتعهد لهم بعدم العودة لحمل السلاح فى وجوههم.. أن ما فعلته حماس بأسيرها لهو سحر، نعم لقد سحرتها بأخلاقها حتى أننى كنت أظن أن شاليط لو استمر أكثر من ذلك فى الأسر لأعلن عن انضمامه لصفوف المقاومة.
لا يمكن لأحد أن يتخيل أن الرجل الثانى فى كتائب القسام أحمد الجعبرى والذى اتهمته إسرائيل بخطف الجندى شاليط، وأنه الوحيد الذى يعلم مكانه، أن يكون بهذه الدرجة من الحنان على أسراه، حين يمسك شاليط بقبضته أثناء تسليمه للجانب المصرى ويطلب له الماء والطعام حتى فى الساعات الأخيرة قبيل تسليمه، هل هذا هو القائد العسكرى القوى الخشن الذى يرفض أن يخفى وجهه بين العسكريين والمطلوب لدى إسرائيل يتعامل بهذا المنطق.. إنها أخلاق الفرسان.. أخلاق تربى عليها هؤلاء القادة ومبادئ نشأوا فى ربوعها لتؤكد لهم أنه وإن كانت الحرب خدعة ويجب اغتنام الفرص فيها إلا أنها يجب أن تسموا فوقها أخلاق الفرسان.. فتحقيق النصر وحده ليس انتصارا ولكن النصر الحقيقى فى أن يشهد لك العدو بالانتصار ويرفع لك القبعة على احتراما وتقديرا لأخلاقك.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة