مازلنا مع السيرة الكبيرة «أنا فللينى» التى عرضنا لبعضها فى مقالتنا السابقة للإيطالى «فيدريكو فللينى 1920 / 1992»، أحد الآباء المؤسسين لفن السينما فى العصر الحديث، وسأتوقف معك هنا عند بعض الأفكار الأخرى التى جاءت بهذه السيرة لكننى أريد أن أشير إلى حقيقة مدهشة عن «الواقعية» الشهيرة التى بدأت فى إيطاليا عام 1945 والتى مثلت انعطافاً فى تاريخ السينما وصارت منهجاً، وكيف يذهب الدارسون إلى أنها كانت أسلوباً أملته الضرورة بعدما احتل الأمريكيون روما عام 1944، الأمر الذى تحولت معه الاستوديوهات إلى خرائب، وكان عليهم تبعاً لذلك أن يصوروا أفلامهم فى أماكن واقعية مستخدمين الضوء الطبيعى. فالـ«واقعية الجديدة» شكل أملته الضرورة، إلا أن ذلك لم يمنع «فللينى» فى ظل هذه الظروف من القول بأن: «الحياة الواقعية لا تثير اهتمامى»، رغم ذلك أحب مراقبة الحياة، ولكن ليدع مخيلته طليقة.
ورغم أن هذه المخيلة قادته إلى الاتكاء على سيرته، ويؤكد دائماً أنه لا يقدم تقريراً دقيقاً عن تجاربه: «بل أستخدمها إطاراً للعمل.. أعتقد أنى حتى لو عملت فيلماً عن كلب أو كرسى، لكان سيرة ذاتية إلى حد ما».
فغايتنا ليس اكتشاف العالم، بل خلقه.
وهو يرى أنه لو صنع فيلماً لإرضاء الجميع فإنه لن يرضى أحداً، لذلك كان عليه أن يرضى نفسه أولاً، فإذا عمل ما يرضيه، فإن ذلك هو أفضل ما يمكن له أن يفعله:
«فأولئك الذين لا يريدون إلا رضاء الآخرين يفتقرون إلى طموح الفنان، ففى التسويات الصغيرة هنا وهناك يخسر الفنان روحه، ينكسر ويتشظى».
وأن تكون فناناً يعنى أن اهتمامك بالأحكام الخارجية عن جودة أعمالك أو رداءتها، يجب أن يكون أقل من اهتمامك بأنك عملتها إرضاء للآخرين، وفكرة العجز المهنى، والخوف من جفاف الينبوع ذات يوم، لا بد أن تهدد كل المبدعين، فالموهبة الغامضة كنز عظيم، ولكن هناك خوفاً دائماً من أن تذهب مثلما جاءت، مكتنفة بالغموض، وهو يسوق بعض الملاحظات المهمة التى استخلصها عبر مشواره الطويل:
- مهما أردت أن تفعل فى هذه الدنيا فعليك أن تبدأ، فالبداية هى أهم شىء فى الحياة، وليس مهما أن تبدأ من شىء حدث لك أو حدث لغيرك، وأياً كان هذا الشىء، فلا تتحدث عنه قبل أن تبدأ أبداً، لأن الحديث عنه يضعفه، بل قد يدمره، فلا تبدد طاقتك فى الكلام.
- حين أبدأ، أبدأ من الشعور، لا من فكرة.
- تحولك إلى أسطورة يعزلك، هذا مكان موحش.
- «ينبغى ألا يقع أحد فى الخطأ الذى وقعت فيه، وهو تراخى الأعوام بين أعمالك.. ثمة فترة متميزة فى حياتك تنال فيها أفضل تقدير.. وقد مرت بى مثل هذه الفترة بعد إخراج «حياة حلوة» والفوز بالأوسكار، والأمر المهم فى تلك الأوقات هو أن تعمل قدر ما تستطيع».
وهو كان يعتقد أن عدم عمل فيلم خير من الشروع فى عمل لا يؤمن به تماماً، غير أنه توصل إلى أن المرء يتعلم من صناعة فيلم ردىء، إذ ربما قاده إلى شىء أفضل، وأنه لو عمل أكثر لكان عمله أحسن. ويصدق ذلك على أى عمل نعمله.
وأخيراً، كان «فللينى» تزوج من الممثلة «جوليوليتا ماسينا» عام 1943، ويقول:
«كانت بريئة وعذبة وطيبة وواثقة بالآخرين، كنت أطول منها، وكانت هى ترفع نظرها إلى. ما أثر فى أحد قبل ذلك مثل ذلك التأثير. وأعتقد أننى وقعت جزئياً فى حب خيالى، المنعكس فى عينيها».
ليس فى الحياة أثمن من إقامة صلة مع إنسان آخر.